Home»International»أزمة الرأسمالية العالمية – الجزء الأول

أزمة الرأسمالية العالمية – الجزء الأول

0
Shares
PinterestGoogle+

آلان وودز
الجمعة: 26 شتنبر 2008

الأزمة العالمية

نعيش أوقات استثنائية. الاضطراب المالي في الولايات المتحدة يخلق موجات تهدد بابتلاع العالم بأسره. هذا الواقع يغير وعي الملايين بسرعة. يوم أمس [25 شتنبر 2008] استقطبت مظاهرة دعا إليها مجلس العمال المركزي بنيويورك حوالي ألف عامل، ضمت عددا كبيرا من عمال البناء، وعمال الصلب والسباكون والميكانيكيون، إضافة إلى المعلمين وغيرهم. الهدف من وراء هذه المظاهرة، التي تمت الدعوة إليها قبل يومين فقط، هو الاحتجاج ضد خطة الرئيس لإنقاذ وول ستريت من خلال منحه 700 مليار دولار من المال العمومي. ها هو تقرير وكالة رويتر عن المظاهرة الاحتجاجية:

    «عمال البناء والنقل والميكانيكيون والمعلمون وغيرهم من النقابيين تظاهروا يوم الخميس، أمام مقر بورصة نيويورك، ضد مقترح الحكومة الأمريكية لإنقاذ وول ستريت في خطوة احتجاجية. وقد هتف مئات المحتجين بحماس تأييدا للقادة النقابيين عندما قام هؤلاء الأخيرين بانتقاد خطة ضخ 700 مليار دولار بهدف إنعاش أسواق الائتمان عبر تخليص المؤسسات المالية من القروض الميئوس منها.

    قال الرئيس الوطني لنقابة AFL-CIO، جون سويني: « تريد حكومة بوش منا أن نتحمل عبئ إنقاذ وول ستريت والذي لا يستهدف حتى جذور أزمتنا ». وأضاف « نريد أن تستعمل دولارات الضرائب التي ندفعها من أجل تحسين ظروف عيش الشعب العامل الذي يعيش في ماين ستريت وليس من أجل تقديمها لحفنة من المدراء التنفيذيين المحظوظين مرتفعي الأجور. »

    كُتِبَ على اللافتات: « لا شيكات على بياض لوول ستريت » و »رواتب تقاعدنا المكتسبة بمشقة ليست فريسة للمغتصبين ». وقد ردد المحتجون شعارات تطالب الحكومة بصرف الأموال على التعليم والرعاية الصحية والسكن بنفس السرعة والسهولة التي أبدتها بخصوص وول ستريت. قال رئيس الفدرالية المتحدة للمعلمين، راندي وينغارتن: « نحن نعلم أنه يجب تقديم حل للوضع الاقتصادي، لكننا نريد إنقاذا مسئولا وليس انتهازيا ». وأضاف: « وهذا يعني أنه كما يقول لي كل رب عمل أنه يجب محاسبة المعلمين، إذن يجب محاسبة وول ستريت ».»

كان المزاج السائد في المظاهرة هو الغضب. والموقف الذي أثار الكثير من ردود الفعل الإيجابية كان هو الدعوة إلى إضراب عام إذا ما استفاد الأغنياء وحدهم من خطة الإنقاذ. يمثل هذا بداية تغير في وعي الطبقة العاملة، ليس في الولايات المتحدة وحدها.

« حدث القرن » أزمة الرأسمالية العالمية

إن ما تعرفه أسواق المال خلال الأشهر القليلة الماضية أحداث غير مسبوقة في التاريخ الحديث. نفس الاقتصاديين البرجوازيين، الذي أنكروا في السابق إمكانية حدوث ركود، بدءوا يتحدثون الآن عن أسوء أزمة خلال الستين سنة الأخيرة. وقد وصف الرئيس السابق للاحتياطي الأمريكي، آلان غرينسبان، الأزمة المالية الحالية باعتبارها: « ربما حدث القرن »

إنهم يعنون في الواقع 79 سنة، على اعتبار أنه لم تكن هناك أية أزمة سنة 1948. لكن الاقتصاديين أناس يؤمنون بالنحس وهم يخشون ذكر 1929، بالضبط كما كان الإسرائيليون القدامى يخشون من ذكر إسم إلههم، في حالة ما إذا كان هناك شيء سيء سيحدث. إنهم قلقون بخصوص الثقة في الأسواق، باعتبار أنهم جميعا يعتقدون أن الثقة (أو غياب الثقة) هو السبب الحقيقي وراء دورات الازدهار والانهيار الاقتصادية. لكن الواقع هو أن الازدهار والانهيار يجدان جذورهما في الظروف الموضوعية. ارتفاع الثقة وتراجعها يعكسان الظروف الواقعية، رغم انه يمكنها أن تتحول بدورها إلى جزء من هذه الظروف، حيث تساعد على ازدهار الأسواق، أو تساعد، كما هو الحال الآن، على انحطاطها.

خلال الأشهر القليلة الماضية تعرضت كل من إي أي جي (AIG) وبير ستيرنز (Bear Stearns) وفاني ماي (Fannie Mae) وفريدي ماك (Freddie Mac) وليمان برادرز (Lehman Brothers) وميريل لينش (Merrill Lynch)، التي كان يعتقد أنها شركات أكبر من أن تسقط، إما للإفلاس ومن ثم استفادت من « عملية إنقاذ » حكومية أو تم تأميمها. ومع بداية استيعاب الناس لجدية الأزمة الاقتصادية، بدأ يتحضر داخل المجتمع مزاج لم نشهد له مثيلا منذ سنوات عديدة. هذا الصباح (26 شتنبر) وصلتنا أخبار انهيار بنك أمريكي آخر، هو واشنطن ميتول (Washington Mutual)، الذي أغلقته الحكومة الأمريكية. كان ذلك أكبر فشل لمصرف أمريكي لحد الآن، وبيعت أصوله المصرفية لبنك ج. ب. مورغان شيس (J. P. Morgan Chase) مقابل 1,9 مليار دولار. يمثل هذا تسونامي مالي مدمر والأسوء لم يأتي بعد.

يراجع الاقتصاديون تقديراتهم بشكل دائم حيث يخفضون سقفها. قبل ستة أشهر، قدر صندوق النقد الدولي خسائر القطاع المالي بأكثر من 1.000 مليار دولار (691 مليار أورو، 546 مليار جنيه استرليني) وتوقع تباطؤا حادا في الاقتصاد العالمي. انتقد أغلبية الاقتصاديين هذه التصريحات باعتبارها جد متشائمة. لكنهم الآن ينشدون أغنية مختلفة. وقد كتب دومينيك ستراوس خان في الفاينانشل تايمز ما يلي:

    «لكن مع كون جزء كبير من الخسائر التي لم يتم حسابها بعد، ومع الأزمة المالية المحتدة الآن، صار من الواضح أنه فقط حل منهجي، قادر على مواجهة الانهيار الآني وقادر على مواجهة أسبابه، من بإمكانه أن يعطي للاقتصاد، في أمريكا وعلى الصعيد العالمي، إمكانية التحرك بشكل عادي.» (الفاينانشل تايمز،22 شتنبر 2008)

نعم إن الاقتصاد الأمريكي، في الواقع، لم يعد يعمل « بشكل عادي ». إنه في الحقيقة يتوقف، على الأقل فيما يخص وول ستريت. وبينما أنا بصدد كتابة هذه الأسطر شهدت أسواق المال في الولايات المتحدة شللا حقيقيا، في الوقت الذي كانوا ينتظرون فيه تأكيد خبر المنحة المالية الضخمة من المال العمومي والتي تأمل السلطات أن تؤدي إلى « إعادة الثقة ». الحقيقة هي أن اعتماد « السوق الحرة » المطلق، من أجل بقاءها، على المنح الضخمة التي تضخ فيها من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين دليل كاف لإظهار إفلاسها التام – بالمعنى الدقيق للكلمة. هذا هو الرد المفحم على الثرثرة بخصوص « اليد الخفية للسوق » وروح المقاولة الخاصة وما إلى ذلك. عند ساعة الحقيقة يتوجب على رجال الأعمال الشجعان والجريئون في كل من وول ستريت ولندن أن يتوجهوا مثل المتسولين، والقبعات في أيديهم، نحو الحكومة وطلب الضمان الاجتماعي. الفرق الوحيد بين هؤلاء وبين المتسولين العاديين هو أنهم يمتلكون الملايير ويتسولون بالتهديد.

ما الذي تبقى من « مظاهر الحالة الطبيعية » عندما تقوم حكومة جمهورية بقيادة متعصب للسوق الحرة بتأميم أبناك اسثمارية أمريكية كبرى؟ أو عندما تقدم وزارة المالية الأمريكية مساعدة ضخمة بحوالي تريليون دولار لتلك الأبناك؟ يوم الأحد تخلى بنكا مورغان ستانلي (Morgan Stanley) وغولدمان ساش (Goldman Sachs) عن محاولة البقاء كأبناك استثمارية مستقلة وتحولا إلى « شركات ادخار » من أجل اكتساب الحق في الوصول إلى الودائع المصرفية والتوصل الدائم بالمساعدات المالية من الاحتياطي الفدرالي. لقد كان القضاء على اثنين من أكبر المؤسسات في وول ستريت مؤشرا على الجدية الكبرى لهذه الأزمة. وقد بينت السرعة التي ذهب بها بنك مورغان ستانلي (Morgan Stanley) إلى آسيا بحثا عن الرساميل مدى تسارع انسحاب الثروة العالمية من الولايات المتحدة.

أعضاء الكونغرس متذبذبون ووزير المالية الأمريكي هنري بولسون (الذي يعتبره بعض المعلقين الرئيس الفعلي للولايات المتحدة) غاضب. وفي هذه الأثناء تواصل الأسواق سقوطها ولا أحد يمكنه إيقافها. هناك حجة أخرى يسمعها المرء تتكرر في الكونغرس: إنكم تطالبوننا بتقديم كل هذه الملايير بدون أية رقابة أو ضمانات. بالإضافة إلى واقع أن هذا يكافئ الأبناك على سوء الإدارة الفادح، من يمكنه أن يقول أن ذلك سيكون له أي تأثير في وقف انهيار الأسواق؟

هذا سؤال رائع، لا بولسون ولا بوش ولا أي شخص آخر يمتلك الإجابة عنه. من المسلي جدا أن نرى المدافعين السابقين عن قداسة السوق الحرة يتباكون الآن من أجل تدخل الحكومة لإنقاذ السوق من نفسه. لكنهم مدانون بمنطقهم الخاص، الذي ليس سوى منطق اقتصاد السوق الحرة المجنون. الأزمة المالية الحالية، التي توقعناها – نحن الماركسيون- منذ أمد بعيد، هي النتيجة المباشرة لمرحلة طويلة من المضاربات الجامحة، التي أنتجت أكبر فقاعة في التاريخ.

عندما أعلنت الحكومة الأمريكية، يوم الجمعة، خطة الإنقاذ بمبلغ 700 مليار دولار لصالح القطاع المالي، ابتهجت الأسواق. لكن المزاج تغير بعد ذلك إلى نقيضه، عندما أجل الكونغرس المصادقة على هذه المنحة الضخمة. لحدود يوم الاثنين، استمر الدولار في المقاومة بشكل يثير العجب أمام الاضطراب الذي يشهده وول ستريت. لكنه تراجع في النهاية أمام القلق بخصوص كلفة خطة الإنقاذ والحالة الهشة للنظام البنكي الأمريكي، مما أدى إلى رفع أسعار السلع المسعرة بالدولار الأمريكي. فقد الدولار 2% أمام سلة العملات الرئيسية، مع ارتفاع الأورو بـ 2,6% إلى أكثر من 1,48 دولار.

تميز سعر النفط بتذبذب محموم، حيث سجل حركات ارتفاع وهبوط حادة. ومع سقوط الدولار، هبط سعر الأسهم وقفز سعر النفط مجددا بعد تراجعه الأخير. يوم الاثنين، 22 شتنبر، شهدت الأسعار ارتفاعا بـ 17%، مما شكل أعلى ارتفاع للأسعار خلال يوم واحد تم تسجيله لحد الآن، وأعلى حتى من ذلك الذي تم تسجيله عند اجتياح العراق. لكن يوم الثلاثاء تراجعت أسعار النفط مرة أخرى بثلاثة دولارات ليصل إلى 106 دولار للبرميل وهناك أسباب وجيهة لنتوقع استمرار تراجع أسعار الطاقة. تعكس هذه التذبذبات الحادة بالتأكيد، من جهة حركة الدولار ومن جهة أخرى نشاط هؤلاء المتورطين في المضاربات. لحدود وقت قريب كان الرأسماليون يضاربون على سوق العقار. عندما انهار هذا السوق، وجهوا أنظارهم نحو حقول أخرى لاستغلالها، نحو أي شيء آخر يمكنه أن يكون قادرا على ذر الأرباح: النفط، الأعمال الفنية، الغذاء. لا يمكن التحكم في هذه المضاربات، بالرغم من جميع الشكاوى والدعوات من أجل التصحيح. إنها تشبه هيدرا: كلما قطعت لها رأسا تظهر لها عشرات الرؤوس.

الاشتراكية… للأغنياء

وكنتيجة للاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية، بدأ الكثير من الناس يساءلون طبيعة النظام الاقتصادي الذي ينتج مثل هذه المآسي. عندما تصبح الدولة الرأسمالية نفسها مجبرة على تأميم المؤسسات المالية، تبدأ في الانتشار الفكرة القائلة: ما هي حاجتنا إلى الأبناك الخاصة والرأسماليين أصلا؟ لهذا السبب يتفادى السياسيون استعمال مصطلح تأميم كما يتفادى الشيطان الماء المقدس. إنهم يحاولون بأي ثمن أن يبحثوا عن وسائل يمكن للدولة من خلالها أن تقدم الرساميل للأبناك بشكل يغني عن التأميم. إنهم يجهدون من أجل اختراع أشكال لرأسمال يترك الملكية الخاصة والرقابة بين أيدي الخواص. لكنهم في النهاية مجبرون، ضدا على إرادتهم، على الاستيلاء على الأبناك المأزومة من أجل الحيلولة دون انهيارها. يعتبر هذا إدانة فاضحة للملكية الخاصة لقطاع اقتصادي حيوي.

بالرغم من أن هذا الواقع قد يبدو متناقضا، فإنه ليس من المصادفة أن البلد حيث يصرخ السياسيون بأعلى صوت ضد خطايا السوق وجشع رجال المال هو الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. بلد المقاولات الحرة، البلد الذي غرست فيه سيكولوجية الرأسمالية جذورا عميقة بين السكان، هو البلد الذي يشهد أشد ردة فعل ربما ضد الشركات الكبرى. تنعكس هذه الحقيقة من خلال خطابات السياسيين، وخاصة المرشحين للرئاسة. كما أن المرشح الجمهوري يستعمل لهجة أشد حتى من نظيره الديمقراطي. هذا لأنه يريد أن يفوز. يرى ماك كاين أن هناك ردة فعل قوية ضد الأجور الفاحشة التي يتلقاها مدراء الشركات الكبرى والمضاربات الفاحشة في وول ستريت، ولذالك فإنه يقول ما يريد أغلب الناس سماعه.

أليس غريبا أن أرباب الرأسمال في بنك بير ستيرنز كانوا يجمعون الثروات في نفس الوقت الذي كانوا يواصلون فيه تطبيق الاستراتيجيات التي أدت إلى الانهيار؟ ولماذا يتوجب على دافعي الضرائب الأمريكيين، الذي أغلبهم فقراء، أن يدفعوا 700 مليار دولار من أجل إنقاذ المؤسسات المالية الكبرى؟ باعتبار أن الحكومة الفدرالية كانت تعاني، يوم 30 شتنبر 2007، من عجز مالي يساوي 53.000 مليار دولار، أي ما يعادل 455.000 دولار لكل أسرة و175.000 دولار لكل شخص. وهذا العبئ يتصاعد كل عام بما قيمته 6.600 – 9.900 دولار لكل أمريكي. تمثل الرعاية الصحية 34.000 مليار دولار من هذا العجز ومن المتوقع أن يعاني صندوق الرعاية الصحية من انعدام الأموال خلال عشر سنوات. من المتوقع أن يسجل برنامج الضمان الاجتماعي رقما سالبا خلال حوالي عشر سنوات. أيا كان الشخص الذي سيكسب الانتخابات الرئاسية وأيا كان الحزب الذي يسيطر على الكونغرس فسيكون عليه أن يحكم عبر تطبيق اقتطاعات ضخمة على حساب مستوى المعيشة. نفس الرأسماليين الذين أخذوا ملايير الدولارات من الحكومة والاحتياطي الفدرالي يطالبون بالرقابة المشددة على الميزانية وتطبيق الاقتطاعات من النفقات الفدرالية وإصلاح (اقرأ: تخفيض) النفقات على الرعاية الصحية.

ليس هناك من أموال للرعاية الصحية أو للتعليم أو التقاعد للعجائز. لكن هناك الكثير من المال لكبريات الأبناك والقطط السمان. هذا التناقض الفاضح يصدم وعي ملايين الأمريكيين العاديين وسيكون له عواقب هائلة في المستقبل. أعباء الديون الثقيلة سترمى على كاهل الأجيال القادمة، التي سيكون عليها أن تدفع ثمنها الباهض على حساب تدهور مستوى عيشها والاقتطاعات في النفقات الاجتماعية. سوف يؤدي هذا حتما إلى تغير عميق في الوعي.

لم يضع الدرس بالنسبة للشعب الأمريكي. ليست هناك أموال لأطفال المدارس أو المرضى أو العجزة، لكن عندما يتعلق الأمر بكبريات الشركات (وليس هناك من شركات أكبر من الأبناك) تسارع الدولة إلى مد يد العون بشيك على بياض. ليس للفقير سوى الاحتقار من جانب إدارة بوش. ففي بلد الحريات لدى كل مواطن الحق في أن يصبح ثريا، وإذا أصر الناس على البقاء فقراء فتلك مشكلتهم! عليهم أن يظهروا شيئا من روح المبادرة وإلا فليلقوا بأنفسهم داخل مجاري المياه وليموتوا. هذه هي الرسالة الصارمة التي ينشرها المسيح الجمهوري عن السوق الحرة. لكن عندما يتعلق الأمر بالأثرياء فإن جورج وولكر بوش يظهر قلقا بالغا. «يجب أن يعطى أكثر لمن يملك، وستكون لديه الوفرة؛ لكن من لا يملك، فإنه حتى ما لديه يجب أن يسلب منه.»

إن جورج بوش، كما نعلم، يؤمن بقوة بالكتاب المقدس. لكن يمكن للمرء أن يشك في أن دوافعه للتدخل في الأزمة المالية ليست مرتبطة كليا بنزعة الإحسان المسيحية. إنها بالأحرى مرتبطة أكثر باليأس. لقد رأت الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة هاوية تنفتح تحت قدميها وكانت مجبرة على أن تتخذ إجراءات طارئة في سعي مسعور لتفادي حدوث ركود عالمي. هذا هو السبب الذي جعل رئيسا متعصبا للسوق الحرة مجبرا على رمي سبعمائة مليار دولار من أموال دافعي الضرائب في أرصدة الأبناك.

استقبلت هذه المبادرة الرائعة فورا بتصفيقات الأسواق، محليا ودوليا. قالت مجموعة البلدان السبعة الأكثر تصنيعا أن أعضائها « يرحبون بشدة بالمبادرات الاستثنائية التي اتخذتها الولايات المتحدة ». إلا أن بلدانا أخرى قالت أنها لا ترى أية حاجة عاجلة لخلق صناديق خاصة لشراء أصول بئيسة. الرأسماليون الأوروبيون وغيرهم مسرورون بالجلوس وترك الأمريكيين يبذلون المجهودات. إذ أليسوا هم المسئولون بالدرجة الأولى عن خلق هذه الفوضى؟ نفس السؤال بدأ يطرح حتى داخل الولايات المتحدة، في كل الشوارع، وفي كابيتول هيل.

وفورا واجه الرئيس مشكلة الكونغرس الأمريكي. ليس هذا راجعا إلى كون رجال الكونغرس أناس أقل حرصا على بقاء الرأسمالية من قاطن البيت الأبيض. لكنهم أكثر حرصا على بقائهم هم. إنهم يحسون بتراكم ردود الفعل ضد الرأسمالية والسوق والأبناك وضد وول ستريت وكل ما يقومون به. إن ضخامة المنحة مسألة جلية للعيان. إنها تعني أنه سوف يؤخذ ما يعادل 9400 دولار من جيوب كل دافع ضرائب أمريكي وتودع في أرصدة نفس هؤلاء الناس الذين تسببوا بالدرجة الأولى في اندلاع الأزمة. تنفع هذه الحقيقة بشكل رائع في تركيز انتباه أعضاء الكونغرس، خاصة وأن الانتخابات ليست بعيدة.

طالب الديمقراطيون بجولة ثانية من الإجراءات من أجل إنعاش الاقتصاد الأمريكي، ممركزة حول زيادة الإنفاق على البنية التحتية، ودعم التدفئة المنزلية وربما المزيد من صكوك الخصم لصالح المستهلكين. لكن الإدارة والعديد من الجمهوريين يقاومون ذلك. تقديم المال للأبناك؟ طبعا! لكن تقديم المال للأمريكيين البسطاء؟ نحن آسفون- الخزانة فارغة! إن ذلك فوق طاقة هؤلاء الناس الطيبون في كابيتول هيل الذين يكرسون كل وقتهم لرعاية مصالح الوطن.

[وكما كان متوقعا عرض مرشح الرئاسة الديمقراطي، باراك أوباما، مخاوفه في خطاب دعا فيه إلى تحديث عملية التصحيح المالي مبنية على أساس أنشطة المؤسسات بدلا من تعريفهم كأبناك أو كسماسرة رهون. وقد قال: «لا يمكننا أن نوقع شيكا على بياض لواشنطن بدون أية رقابة أو محاسبة في الوقت، بينما انعدام الرقابة والمحاسبة هما بالدرجة الأولى اللذان أوصلانا إلى هذه الفوضى».

رد الفعل الأكثر غرابة ربما كان هو ذلك الذي أبداه المرشح الجمهوري، الذي لا يريد أن يتجاوزه غريمه (إذ أن الكلمات بخسة الثمن وهذه سنة انتخابات)، حيث قال: «هذه الترتيبات تزعجني بشكل عميق، لم يسبق أبدا في تاريخ أمتنا أن تركزت كل هذه القوة والمال في يد شخص واحد. عندما نتحدث عن حوالي تريليون دولار من أموال دافعي الضرائب، لا يكون القول « ضع ثقتك في » كافيا». بل إن السيد ماك كاين صوت لصالح دعوة الديمقراطيين إلى فرض ضريبة سنوية تبلغ حوالي 400.000 دولار على المدراء التنفيذيين للشركات التي استفادت من خطة الإنقاذ بأموال عمومية. إن هذا يتناقض كليا مع موقف إدارة بوش، التي تصر على أن فرض الضريبة سوف لن يشجع الأبناك على المشاركة.

عمل كبار المسئولين الديمقراطيين في البرلمان ومجلس الشيوخ على توزيع اقتراحات تتضمن رقابة أشد، ومقترحات مختلفة من أجل السماح للحكومة بأخذ حصص في الشركات التي تشكل جزءا من المخطط والسماح للقضاء بكتابة الرهونات والحد من أجور المدراء التنفيذيين للبنوك التي تبيع الأصول للصندوق الحكومي. يقاوم السيد بولسون الموقف القائل بجعل أداء ثمن الأسهم أو نقلها إلى ملكية الحكومة كشرط مسبق لبيع الأصول للصندوق، بحجة أن ذلك سيؤدي إلى أن البنوك التي على حافة الإفلاس هي وحدها من ستشارك في العملية.

وقد أدت هذه المواجهة إضافة إلى مطالبة الديمقراطيين بممارسة المزيد من الرقابة على الأموال المقدمة للأبناك، إلى حدوث جمود وتأخر تسبب في قلق الأسواق مرة أخرى. إذ من المفترض أنه عندما تأمر الأسواق، فيجب أن تطاع. ليس من المفترض في ممثلي الأمة المنتخبين أن يطرحوا أية أسئلة! وقد دعى الرئس بوش الكونغرس أن « يبقي فاتورة الإنقاذ مركزة على حل أزمة أسواقنا المالية ».

لكن الكونغرس يتعرض لضغط الرأي العام، الذي، كما رأينا، قد بدأ يصل نقطة الغليان. أعضاء الكونغرس يتعرضون يوميا لوابل من المكالمات الهاتفية والرسائل الالكترونية، التي يعبر من خلالها ناخبوهم عن غضبهم من هذه المنحة الفضائحية التي قدمت للأثرياء. إن تجاهل هذا المزاج ليس في مصلحتهم! ومن ثم فإنهم ترددوا في توقيع الصفقة. يلوم الكونغرس الإدارة على توريطهم في هذه الفوضى. والرئيس يلوم الكونغرس على عرقلة صفقة من المفترض فيها أن تنقد الاقتصاد الأمريكي من الانهيار (استعمل بوش هذا الكلمات بالضبط خلال خطاب متلفز غير مسبوق وجهه إلى الأمة).]]

يجتاح البرلمان مزاج سيء: رجال الكونغرس يتبادلون السباب ويكادون يتبادلون اللكمات. متى كان بالإمكان رؤية مثل هذه الأحداث في كابيتول هيل؟ ومتى كان بالإمكان رؤية الولايات المتحدة غارقة في حالة من الاضطراب الاقتصادي؟ ومتى كان بالإمكان رؤية الشعب الأمريكي في ظل هذه الحالة من التمرد والغضب؟ إن السبب وراء تصرف رجال الكونغرس هو كونهم يشعرون بلهيب النار وراء ظهورهم.

أي شيء يقومون به الآن سيكون خاطئا. فإذا ما وقعوا الصفقة فسيكسبون كره ملايين الأمريكيين العاديين. قالت سيدة، تم استجوابها الليلة الماضية من طرف التلفزيون البريطاني، في سياق سؤالها عن موقفها من خطة الانقاذ: «إنني عائدة للتو من وردية عمل من إحدى عشرة ساعة وإنني أعمل 60 ساعة في الأسبوع. وهم يريدون الآن أن يأخذوا 2.300 دولار من أجرتي من أجل إعطائها للأبناك!» إن هذا مثال عن موقف ملايين أبناء الشعب العاديين في الولايات المتحدة. لكن إذا ما هم رفضوا التوقيع، فإن ذلك سيتسبب في المزيد من الانهيارات الحادة في أسواق الأسهم في الولايات المتحدة، مما يهدد بحدوث انهيار كامل على شاكلة 1929. إنهم، بعبارة أخرى، عالقون بين المطرقة والسندان.

تشاؤم البورجوازية

تعاني البرجوازية من نوبات كآبة هوسية دورية، وتنتقل بسرعة من التفاؤل المتطرف إلى أعمق أعماق التشاؤم. وعلى جانبي المحيط الأطلسي، حيث ساد في السابق « حماس غير عقلاني »، نجد الآن سيادة الغم والحزن. لقد كان الأمر هكذا دائما، فالبرجوازية تتذبذب دائما بين التشاؤم والتفاؤل. فتارة تكون الحفلة في أوجها وتتحقق ثروات هائلة، وتارة أخرى ينقلب الوضع كله ويعم البؤس. وعندما يحدث الانهيار في النهاية يشبه الأمر صباح ليلة حفلة ماجنة. ففي الليلة السابقة كان الناس يسكرون بإفراط، لكن الآن ومع إشراقة نور الصباح البارد تكون القصة مختلفة جدا. حيث يدركون بألم مدى إفراطهم في الليلة الماضية. فيقسمون أغلظ الأيمان بأنهم لن يقربوا الخمور القوية مجددا، وهم صادقون فيما يقولون، إلى حين الحفلة القادمة.

ليس الانهيار المخزي للفقاعة المضارباتية الأخيرة استثناء عن القاعدة العامة. لا يتميز سوى بحدته التي لا تعكس سوى علو القمة التي يسقطون الآن منها. لقد كان ببساطة أضخم موجة ازدهار مضارباتي (أضخم فقاعة) في التاريخ. لقد كانت أكبر بكثير من الازدهار الذي سبق انهيار وول ستريت. إلا أنه وبالرغم من الحدة الواضحة للأزمة فإن الاقتصاديين البرجوازيين لا يزالون يحاولون طمأنة أنفسهم بفكرة أن الأشياء كانت ستكون أسوء. وقد علقت الفايننشل تايمز مؤخرا قائلة:

«بدأ الكساد الأعظم قبل أقل من 80 سنة، لكننا في قرن مختلف. ولا سواء كانت هذه أسوء أزمة سيواجهها العالم من الآن وحتى 2099 أم لا، فإن حقيقة أنه لم يقع أي حدث أسوء من الكساد ما بين سنوات الثلاثينات والآن هو في حد ذاته شيء جيد.» إن هذا التعليق مهم من ناحيتين: فنفس الأشخاص الذين ضلوا طيلة سنوات ينكرون أية إمكانية لتكرار مثل ما حصل سنة 1929 والأزمة الكبرى، هاهم الآن يقولون، دون خجل، أن ذلك ليس ممكنا فقط، بل أنه جيد لكونه لم يحدث… قبل الآن.

كتب دومينيك ستراوس خان قائلا: « […] ولأنه لم يحدث، على الأقل في الوقت الحالي، للاقتصاد العام، أي بداية كساد اقتصادي حاد. ربما كان عدم حدوث هذا الأخير هو الذي طمأن العديد وجعلهم يرون في انفجار الفقاعة العقارية مجرد عملية تصحيح، ومشاكل أزمة الرهون العقارية العالية المخاطر الأمريكية (sub prime mortgage) مجرد سوء حظ وفي فشل مؤسسات مالية هامة مجرد أعراض جانبية.» (المصدر نفسه)

انهيار الأسعار الذي يحدث خلال الأزمة يعمل فقط على تعويض التضخم السابق. بهذا المعنى يمكن للمرء أن يتحدث عن « عملية تصحيح ». لقد سبق لنا أن أشرنا قبل وقت طويل إلى كيف يعمل الاقتصاديون البرجوازيون دائما على تغيير المصطلحات في وصف الانهيار الاقتصادي من أجل جعله يبدو أقل خطورة مما هو عليه في الواقع. ففي مرة استعملوا عبارة هلع، ثم أزمة، ثم كساد، ثم ركود، وها هم الآن وصلوا إلى عبارة تصحيح. فقبل كل شيء إذا ما نحن آمنا بالقدرات الشفائية العجائبية للسوق، الذي يستطيع بقدرة سحرية أن ينظم نفسه دون التدخل البشري الواعي، كيف يمكننا أن نرفض الإيمان بأن السوق « يصحح » نفسه؟

وقد كتبنا حول هذا الموضوع في World Perspectives 2008، ما يلي:

    «يمكن حتى للزلزال أن يعتبر « تصحيحا » ضروريا، لا يعمل سوى على إعادة تشكيل القشرة الأرضية. ففي النهاية كل شيء يعود إلى طبيعته وتواصل الحياة طريقها كما في السابق. لكن هذا التحليل المطمئن لا يأخذ بعين الاعتبار الحجم الرهيب من الخسائر التي يسببها الزلزال: حيث يتسبب في اختفاء قرى من على وجه الأرض، ويقتلع الأشجار ويدمر المحاصيل ويخلف آلاف القتلى والجرحى. هذا علاوة على أن الحياة لا تعود إلى طبيعتها بسهولة بعد كل زلزال. إذا أن بعض الزلازل يكون مدمرا ويترك الكثير من معالم الدمار التي يستمر مفعولها طيلة العديد من السنوات.»

إن هذه الأسطر تصف بصدق نتائج ذلك « التصحيح »

دكتاتورية الرأسمال المالي

المرحلة التي نعيشها هي مرحلة الرأسمالية الاحتكارية. ومن مميزات هذه المرحلة السيطرة المطلقة للرأسمال المالي. وقد تطورت هذه السيطرة في الولايات المتحدة وبريطانيا بشكل أكبر من أي بلد متقدم آخر. بريطانيا، التي كانت ورشة العالم، تحولت إلى اقتصاد ريعي طفيلي، ينتج أقل ويسيطر عليه القطاع المالي والخدماتي. ولحدود الفترة الأخيرة كان هذا الواقع يصور باعتباره شيئا إيجابيا، سيحمي بريطانيا من اضطرابات الاقتصاد العالمي. لكن العكس هو الصحيح. فبسبب تقليدها الذليل للنموذج الأمريكي، صارت بريطانيا تنحدر نحو ركود اقتصادي مثل الولايات المتحدة ومن جد المحتمل أن تكون الأكثر تضررا. ومثل دودة طفيلية تتضخم على حساب الجسم المضيف، تضخم القطاع المالي بشكل كبير جدا نسبة إلى الاقتصاد، منهكا قواه ومهددا إياه بالدمار كليا.

من المسلم به أن كل من يصعد إلى أعلى يجب أن ينزل. ولعدة سنوات بدا الاقتصاد الأمريكي وكأنه يخرق قوانين الجاذبية الاقتصادية. والآن يجب دفع الثمن. لقد بدأ السقوط الآن وهو يسجل سرعة قياسية بسبب الارتفاعات الهائلة التي وصلتها المضاربات في القطاع العقاري خلال المرحلة التي سبقته. وقد وصل إلى سرعة أكبر بكثير من سرعة السقوط الذي عرفته أثمان المنازل خلال مرحلة الأزمة الكبرى، فخلال الربع الأول من سنة 2008 سقطت أسعار المنازل في الولايات المتحدة رسميا بـ 14,1%. بينما خلال سنة 1932، وهي السنة التي سجل فيها الانهيار أدنى مستوياته، سقطت أسعار المنازل بـ 10,5%. والجدير بالذكر هو أن هذه الأرقام لا تعكس بصدق خطورة الموقف. يقول بعض الاقتصاديين أن سقوط أسعار المنازل خلال الربع الأول من السنة سجل رقم 16% في الواقع. وهو أبعد من أن يكون قد توقف.

هذا يعني أنه لن يكون لتلك المبالغ الضخمة التي قدمت للأبناك أي تأثير في الحيلولة دون السقوط، أو في أفضل الحالات لن يكون لها سوى تأثير ظرفي قبل حدوث سقوط أكبر وأسرع. هذا هو منطق السوق الذي لا يتبع سوى قوانينه الخاصة. إن ما يسمى بخطة إعادة الاستقرار ليست كذلك سوى بالاسم فقط. وليست كل تلك الأقاويل عن إدخال النظام إلى الأسواق سوى ترهات فارغة. إن الاقتصاد الرأسمالي اقتصاد فوضوي بطبيعته. لا يمكن أن يكون مخططا ولا منظما. ومحاولة إدخال الاستقرار إلى القطاع المالي عبر ضخ مبالغ ضخمة من الأموال لن تؤدي إلا إلى زيادة ثروات الأثرياء. لكن لن يكون لها أي تأثير دائم على السوق.

وقاحة أصحاب الأبناك مثيرة للعجب. إنهم يطالبون الحكومة أن تشتري منهم ديونهم الميئوس منها، في نفس الوقت الذي يواصلون فيه التشبث بالأصول المربحة. لا أحد يعلم ما هي القيمة الحقيقية لهذه الأصول. تقول الأمثال أنه لا يجب أبدا شراء البيض دون النظر داخل السلة. إنها نصيحة وجيهة، لكن الحكومة ستقدم مبالغ هائلة من الأموال للبرجوازيين دون أن تنظر داخل السلة. إن الأزمة التي يعرفها النظام البنكي هي نتيجة لعملية خداع كبرى شارك فيها جميع أصحاب الأبناك بسرور كبير طيلة العقدين الأخيرين. لقد جعلت منهم أشخاصا فاحشي الثراء لكنها خلفت الآن مبالغ هائلة من الديون والرساميل الوهمية في حسابات المؤسسات المالية. كيف يمكن حل هذه المشكلة البسيطة؟ تلك مسألة سهلة! إجعل دافعي الضرائب يدفعون الفاتورة. إدفع الحكومة إلى خلق وكالة لشراء هذه الأصول وتحتفظ بها إلى حين أن تصبح « ناضجة » ويمكن إعادة بيعها مجددا للقطاع الخاص. هذا يعني تأميم الخسائر وخصخصة الأرباح، أو إذا استعملنا عبارة غور فيدال الرائعة، الاشتراكية للأغنياء واقتصاد السوق الحرة للفقراء.

يدّعي الرأسماليون أنهم يقدمون هم أيضا التضحيات، لكن ما يقصدونه بقولهم ذاك هو أنهم يضحون بجزء يسير من أرباحهم المتضخمة، بينما يضحي العمال بمستوى عيشهم ومنازلهم. يصرخ أصحاب الأبناك من الألم فتأتي الحكومة مسرعة وفي يدها دفتر شيكات موقعة على بياض. يطالب أصحاب الأبناك الحكومة بـ « توفير السيولة »، لكن المشكلة هي أن الحكومة لا تمتلك أية سيولة. لا يمكنها أن تحصل على الأموال سوى من الضرائب. لكن فرض الضرائب يخفض الاستهلاك، المنخفض أصلا في الولايات المتحدة ويواصل الانخفاض. يمكن لهذا الإجراء أن يقلل مؤقتا من « معاناة » الأثرياء، لكن فقط على حساب مفاقمة معاناة ملايين الأمريكيين العاديين. لكن هذا لا يشكل في حد ذاته مدعاة للقلق طبعا، على اعتبار أنه من واجب الأمريكيين الوطنيين أن يعانوا في سبيل قضية السوق الحرة العظيمة. لكن مع الأسف سيكون لذلك تأثيرات أشد خطورة على الاقتصاد.

المزيد من تراجع الطلب سيؤدي إلى الرفع من معدلات البطالة. ستتعرض الشركات للإفلاس. سوف يعجز المزيد من الناس عن أداء ديونهم العقارية وعجز بطاقات الائتمان الخاصة بهم. بعبارة أخرى سوف تؤدي إلى تعميق الأزمة وسيجعلها أصعب على الحل. هذا علاوة على أن الولايات المتحدة قد تحولت خلال السنوات الأخيرة من أكبر بلد دائن في العالم إلى أكبر مدين. وسعي الحكومة نحو التكفل بالأصول الميئوس منها وضخ الرساميل في المؤسسات المالية سوف يفاقم بشكل هائل هذه المديونية. سوف يؤدي هذا حتما إلى المزيد من سقوط قيمة الدولار مقارنة مع العملات الأخرى. وهو ما سوف يؤدي إلى المزيد من الاضطرابات في أسواق المال العالمية.

من المفترض في الأبناك المركزية أن تحول دون الهرولة نحو الأبناك والمؤسسات المالية من خلال طمأنة المودعين بأن الودائع البنكية موجودة في أمان وعبر توفير السيولة للمؤسسات المالية. لكن هناك حدود لقدرات الأبناك المركزية، وقد وصلت إلى هذه الحدود. لقد قامت لحد الآن ربما بأكثر ما يمكنها أن تقوم به. وفي حالة حدوث أزمات بنكية جديدة ستكون عاجزة عن التحرك. وبما أنه ليس لأي كان أية فكرة عن كم لا يزال الدين يسمم الاقتصاد العالمي، فإن مثل هذه الأزمات حتمية خلال المرحلة المقبلة. عاجلا أو آجلا ستنتهي بسقوط هذا البنك أو ذاك من البنوك الكبرى، الشيء الذي يمكنه أن يسبب صدمة كبرى للاقتصاد العالمي، مثل تلك التي سببها انهيار اكبر بنك نمساوي (Kredit-Anstalt) سنة 1931. لقد حصل ذلك بعد سنتين ونصف من انهيار وول ستريت في الولايات المتحدة وسجل بداية الانهيار المالي في أوروبا الوسطى وأبعد منها. من الممكن جدا أن نشهد حدوث شيء مماثل خلال المرحلة المقبلة.

ماركس والرأسمال الوهمي

ليس نقص المال هو سبب الأزمة، بل العكس تماما هو الصحيح، فالأزمة هي التي تسبب نقص المال. إن الاقتصاديين الرأسماليين بعقليتهم المصرفية يخلطون السبب بالنتيجة، والمظهر بالجوهر. عندما يدخل الاقتصاد في أزمة، تتقلص القروض ويطالب الناس بالمال عدا ونقدا بدلا عنها. هذه نتيجة الأزمة، لكنها بدورها تصبح سببا لها، حيث تؤدي إلى انخفاض الطلب وتخلق دورة لولبية نازلة.

يصر أصحاب الأبناك وأصدقائهم في الحكومة على أن سبب الأزمة هو واقع أن النظام المالي يمتلك رساميل قليلة جد. إن هذا موقف غريب. فخلال العقدين الأخيرين كان هناك كرنفال كبير لربح الأموال حقق خلاله أصحاب الأبناك أرباحا فاحشة. والآن يزعمون أنهم لا يمتلكون ما يكفي من الرساميل! في الحقيقة كانت هناك كمية ضخمة من الرأسمال المقترض في التداول، خلال فترة الازدهار، وهذه الوفرة الكبيرة في الرساميل في حد ذاتها تبين حدود الانتاج الرأسمالي. كانت هناك كميات ضخمة من الرساميل متوفرة للمضاربات لم تكن تجد منفذا وكان على البرجوازيين أن يجدوا طرقا أخرى لاستعمالها.

سبق لماركس أن أشار منذ وقت بعيد إلى أن حلم البرجوازية الأمثل هو تحقيق المال من المال، دون الحاجة إلى الدخول عبر مسلسل الإنتاج المضني. وقد بدا خلال المرحلة الأخيرة أنهم تمكنوا من تحقيق هذه الفكرة (ما عدا الصين حيث كان هناك تطور حقيقي لقوى الإنتاج). في الولايات المتحدة وبريطانيا وإسبانيا وإيرلندا والعديد من البلدان الأخرى، استثمرت الأبناك تريليونات الدولارات في المضاربات، وخاصة في قطاع السكن. كانت هذه هي القاعدة التي نمت على أساسها فضيحة أزمة الرهون العقارية العالية المخاطر وازدهرت، معممة لمبالغ لا يمكن تصورها من الرساميل الوهمية.

حتى خلال زمن ماركس كانت هناك مبالغ هائلة من الرساميل قيد التداول؛ هذه الرساميل هي من تشكل قاعدة الرأسمال الوهمي. في تلك الأيام كان هناك احتيال القروض. إلا أنه إذا ما قورن بالوضع الحالي، تصير كل مضاربات الماضي تافهة. إن الكمية العامة للمضاربات على الصعيد العالمي مذهلة. دعونا نأخذ مثالا واحدا فقط: شركات مبادلة الديون. يسمح هذا السوق لطرفين أن يراهنا على عجز شركة ما عن أداء دينها. وقد نما هذا السوق إلى حوالي 90 تريليون دولار من الكميات المؤمنة نظريا. هذا يعني ربما حوالي أكثر من ضعف مجمل القروض في العالم. لكن العقود غير موجودة في أي مكان ما عدا دفاتر الشركاء. لا أحد يعلم الحجم الحقيقي للمضاربات، التي تعرض الاقتصاد العالمي لمخاطر هائلة. هذا يفسر الهلع السائد في وول ستريت وفي البيت الأبيض. إنهم يخشون، عن حق، أن تؤدي أية صدمة قوية إلى تحطيم كل بنيان سوق المال الدولي المهتز، الشيء الذي له عواقب مجهولة.

حتى خلال القرن التاسع عشر، وخلال أوج الازدهار، عندما كانت القروض سهلة وكانت الثقة في ارتفاع، كانت أغلبية المضاربات تتم بدون مال حقيقي. كان هناك مال وفير في بداية كل دورة ومعدل الفائدة منخفض. انخفاض معدل الفائدة يرفع من أرباح الشركات في بداية الدورة ويشجع النمو. لاحقا يرتفع معدل الفائدة، خلال فترة الازدهار، ليصل إلى نسبته المتوسطة. يعرف الطلب على القروض ارتفاعا ومن تم تميل معدلات الفائدة إلى الارتفاع خلال أوج الازدهار. لكن خلال الازدهار الأخير لم يحدث هذا السيناريو.

خلال السنوات الأخيرة اتبع الاحتياطي الفدرالي سياسة تهدف عن قصد إلى إبقاء معدلات الفائدة منخفضة (بل خلال مرحلة معينة كانت سلبية في الواقع بالنظر إلى معدل التضخم). يعتبر هذا التصرف تصرفا غير مسئول من وجهة نظر رأسمالية أرثوذوكسية. أدى إلى خلق فقاعة العقارات ووضعت بالتالي الأسس لحدوث الأزمة الحالية. لكن طالما كانت تحقق أرباح هائلة وكان المستثمرون سعداء، لا أحد كان يهتم. لقد انخرطوا جميعا في كرنفال مجنون لربح الأموال. حتى أكثر أصحاب الأبناك وقارا وأفضل الاقتصاديين ثقافة انخرطوا في الرقص على أنغام: « كل واشرب وكن سعيدا، فغدا سنموت! »

السبب الذي يجعلهم يشتكون اليوم من عدم توفرهم على ما يكفي من الرأسمال هو كون جزء كبير من أصولهم وهمي، نتيجة لعملية احتيال غير مسبوقة في القطاع المالي. طالما كان الازدهار مستمرا، لا أحد منهم كان يهتم. لكن الآن ومع انتهاء فترة الازدهار، صارت كل تلك الأصول موضع شك وتدقيق. أصحاب الأبناك، الذين كانوا في الأمس مستعدين لشراء كميات كبيرة من الدين من بعضهم البعض، لم يعودوا مستعدين لعمل ذلك. الارتياب والشك صارا عامين. واستبدل التفاؤل الكبير السابق بموقف البخل أثناء القرض والاقتراض. كل النظام البنكي، الذي يعتمد عليه دوران الرأسمال، صار يتجه نحو الشلل.

ما لم تتم إزالة جميع الأصول السيئة وإلى أن يتم ذلك، سوف تبقى العديد من المؤسسات تشكو من نقص الرأسمال الكافي لتوفير القروض للاقتصاد. وقد سبق لماركس أن وصف هذه المرحلة من الدورة الاقتصادية، حيث قال:

    «من الواضح أن هناك نقص في وسائل الأداء خلال مرحلة الأزمة. قابلية صكوك التبادل للتحويل تحل محل السلع نفسها، وخلال هذه الأوقات بالضبط حيث تشتغل نسبة أكبر من الشركات بواسطة القروض تحديدا. يمكن للتشريعات البنكية الجاهلة والخاطئة، من قبيل تشريع 1844-1845، أن تزيد من مفاقمة الأزمة المالية. لكن ليس هناك من تشريع بنكي بإمكانه القضاء على الأزمة.

    «في ظل نظام إنتاج تعتمد فيه كل استمرارية العملية الإنتاجية على القروض، يصير حدوث الأزمة مسألة حتمية، التسارع لوسائل الأداء، عندما تتوقف القروض فجأة ويصبح الدفع عدا ونقدا هو الوحيد من له الصلاحية. لذا تبدو الأزمة كلها، للوهلة الأولى، وكأنها فقط أزمة قروض ومال. وهي في الحقيقة مجرد مسألة قابلية تحويل حوالات التبادل إلى مال. لكن أغلبية هذه الحوالات تمثل عمليات بيع وشراء حقيقية، والتي يعتبر امتدادها إلى ما أبعد من حاجيات المجتمع، قبل كل شيء، أساس الأزمة بمجملها. وفي الوقت نفسه، تمثل كمية هائلة من حوالات التبادل هذه مجرد احتيال مفضوح، سرعان ما يختفى بمجرد تعرضه لضوء النهار مثل فقاعة صابون؛ إضافة إلى مضاربات فاشلة برأسمال أناس آخرين؛ وأخيرا رأسمال من سلع منخفضة القيمة أو غير قابلة للبيع مطلقا، أو عائدات لا يمكن أبدا تحقيقها مرة أخرى. لا يمكن طبعا لهذا النظام الاصطناعي القائم على التوسيع الإجباري لمسلسل الإنتاج، أن يشفى من خلال قيام بعض البنوك، من قبيل بنك إنجلترا، بإعطاء هؤلاء النصابين، مقابل أوراقهم، الرأسمال الذي ينقصهم وشراء كل السلع المنخفضة القيمة مقابل قيمتها الإسمية السابقة. وعلى سبيل المصادفة يبدو كل شيء مشوها هنا، طالما أنه في هذا العالم الورقي يختفي السعر الحقيقي وقاعدته الحقيقية، وتظهر فقط السبيكة والعملة المعدنية والكمبيالات والحوالات والسندات المالية. ويصبح هذا التشوه واضحا بشكل خاص في المراكز حيث تتركز كل معاملات البلد المالية، مثل لندن؛ تبدو كل العملية غير مفهومة؛ وهي أقل غموضا في مراكز الإنتاج.» (كارل ماركس، الرأسمال، المجلد 3، الفصل 30، الرأسمال المالي والرأسمال الحقيقي)

على الرأسماليين الآن امتصاص كل هذه الرساميل الوهمية من النظام. مثل رجل تسمم جسده، أو مثل مدمن على المخدرات يصارع ضد الآثار المرضية لإدمانه، يتوجب عليهم أن يطردوا السم خارج الجسد أو سيتعرضون للفناء. إلا أن هذه عملية مؤلمة وتخلق مخاطر جديدة للجسد. عندما ينكمش النظام وتتقلص القروض، يسحب الرأسماليون قروضهم من التداول. وهؤلاء الذين يعجزون عن الأداء يفلسون. تتصاعد البطالة نتيجة لذلك، وهذا بدوره يقلص الطلب، متسببا في حالات إفلاس جديدة وديون جديدة غير قابلة للاسترجاع. وهكذا فإن جميع العوامل التي ساعدت على تطوير الاقتصاد في المرحلة السابقة تتحول إلى نقيضه

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *