مجلة « شارلي » وقمة الإفلاس الأخلاقي!
اسماعيل الحلوتي
مرة أخرى ولا نعتقد أنها ستكون الأخيرة تأبى مجلة « شارلي إيبدو » الفرنسية المختصة في مجال السخرية، إلا أن تتمادى في نشر تفاهاتها وتثير التقزز والاشمئزاز ليس فقط في أوساط العرب والمسلمين، بل حتى بالنسبة لشعوب العالم الغربي ممن يملكون حسا إنسانيا رفيعا. حيث أنها ارتأت أن تجعل بكل وقاحة من الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا ومناطق الشمال السوري يوم الإثنين 6 فبراير 2023 مادة دسمة للاستهزاء. حيث نشر حسابها الرسمي على تويتر في ركن « رسم اليوم » رسومات تظهر الخراب الكبير الذي خلفته الفاجعة في المباني السكنية، معلقة عليه ب »لا حاجة لإرسال دبابات » فأي كراهية مثل هذه التي يكنها محررو المجلة لكل ما هو عربي وإسلامي؟ وأي عنصرية تستوطن عقولهم وقلوبهم؟
وفي نفس السياق يشار إلى أن مجلة التفاهة والسخافة « شارلي إيبدو » اقترن اسمها بالسخرية من الأديان والمعتقدات، حيث أنها دأبت منذ تأسيسها في سنة 1970 على استفزاز مشاعر المسلمين برسم رموزهم المقدسة والتهكم عليها، وهي ترفع شعار حرية التعبير ولا تعترف إطلاقا بالخطوط الحمراء، ولاسيما ما يتعلق بالدين والسياسة والحياة نفسها. وقد جاءت على أنقاض جريدة فرنسية أخرى لا تقل غباء ومشاكسة وهي المسماة وفق شعارها « هارا-كيري » التي تأسست عام 1960 من قبل رسامين للكاريكاتير.
وبالرغم من مثول ذات المجلة أمام القضاء في أكثر من مناسبة على إثر شكاوى تقدمت بها عدة شخصيات وتنظيمات، ومن تلك الوقفات الاحتجاجية المنددة برسومها والمظاهرات المنادية بإغلاقها. وبالرغم من محاولة اغتيال بعض رساميها وإلقاء زجاجات حارقة داخل مقرها، فإنها لم تتوقف عن مقالاتها ورسومها المستفزة ولم تزدد إلا تمسكا بنهجها الساخر حتى من معتقدات الآخرين. وكان أول احتكاك لها بالمسلمين، هو إقدامها خلال سنة 2006 على إعادة نشر رسوم مسيئة لسيد الخلق محمد عليه الصلاة والسلام، كانت قد صدرت في وقت سابق بجريدة دانماركية تدعى « يولاندس بوستن ».
فأي ذي عقل سليم كيفما كانت جنسيته وديانته يقبل بأن تتخذ هذه المجلة وغيرها من المجلات من ضحايا كارثة طبيعية خلفت أزيد من ثلاثين ألف قتيل وملايين المشردين والمصابين مادة للتهكم الكاريكاتيري دون أدنى مراعاة لمشاعر الشعوب واحترام للقيم الإنسانية؟ وهو ما أثار ردود فعل غاضبة حتى في بعض الأوساط الأوروبية، إذ نشرت عديد المواقع مقالات تتساءل فيها باستغراب شديد حول ما إذا كانت مثل تلك الرسوم شماتة وإهانة أم حرية تعبير؟ فطالما اشتعل النقاش هنا وهناك في مختلف بقاع الأرض حول الحدود الفاصلة بين السخرية أو الإهانة وحرية التعبير، وجعل عدة نقابات واتحادات تتوفر على وحدات متخصصة في بحث أخلاقيات العمل، وتضم نشطاء في المجال الإعلامي يخضعون الكثير من المواد الصحافية لمواثيق الشرف المهني أو مدونات قواعد السلوك التي يحتكم إليها الخبراء في القضايا المثيرة للجدل، كما تؤكد ذلك بعض المواقع المتميزة.
ففي مجموعة من التعليقات نجد أن هناك من يؤاخذ المجلة المثيرة للجدل والاستغراب، حيث يقول « مايك هولدرنس » محرر موقع الصحفيين المستقلين بلندن: « حرية التعبير تعني بالضرورة الإساءة للمذنبين وملاحقة الفاسدين والضغط على الكاذبين وذوي النفوذ، لكن استخدام حرية التعبير للإساءة بدون مبرر لأبرياء لم يرتكبوا أي خطأ، فهو أمر صبياني » وهناك أيضا من يرى أن رسومها « تكون أحيانا عدوانية وجارحة بدون معنى وبلا ذوق » لأن السخرية من أشخاص أبرياء في أعقاب مأساة إنسانية، تعد أمرا غير مقبول وتصرفا حقيرا ولا أخلاقيا، تقتضي أن تتم إدانتها من لدن جميع شعوب العالم.
إن قمة الإفلاس الأخلاقي وانعدام الضمير أن تسخر مجلة فرنسية من آلاف الضحايا الأتراك والسوريين وقد يكون من بينهم أشخاص من جنسيات أخرى لقوا حتفهم أو أصبحوا بدون مأوى جراء ذلك الزلزال الذي ضرب المنطقة، مما ينم عن نزعة عنصرية معادية للمسلمين مترسخة في أعماق المجتمع الفرنسي الذي يضمر الحقد والكراهية لكل من تشتم فيهم رائحة الإسلام، ذلك أن مشاعر الخوف والكراهية تشكل أزمة نفسية عميقة في الكثير من دول الغرب، تغذيها تلك الصور النمطية السلبية والمعلومات الخاطئة والمضللة. وبتهكمها على ضحايا الزلزال من الأشخاص الأبرياء، ستساهم مجلة الشرور الفرنسية بلا شك في إثارة الفتن وإذكاء نيران الحقد والكراهية بين الشعوب المسلمة وغيرها…
ولا يسعنا هنا في هذه الورقة المتواضعة إلا أن نترحم على ضحايا الفاجعة الكبرى سائلين المولى جل وعلا أن يتغمدهم بالمغفرة والرضوان، ويلهم ذويهم الصبر والسلوان، وأن يعجل بالشفاء للجرحى والمصابين، وفي ذات الوقت ندعو بالهداية للقائمين على تحرير مواد مجلة الخبث والشرور « شارلي إيبدو »
Aucun commentaire