الحكمة من وجوب الفرائض في الإسلام.
ذ.إسماعيل اسلِمي *
فرائض الإسلام كثيرة ويسيرة؛ أشهرها الصلاة والصيام والزكاة والحج ؛ فالهدف من فرضها على المسلم هو تكوين شخصيته الروحية والنفسية والاجتماعية ، وربطه بخالقه باستمرار مدىٰ حياته ، إذ تغيّر من سلوكه نحو الأفضل والأكمل لأنها تمسه في ذهنيته ونفسيته وعاطفته ، وفي حاله وباله و ماله ومآله ؛ وفي صحته ووقته كما تحركه من الداخل طول عمره ؛ منها مايشده بعقيدته ، ومنها ما يحد من رغبته وشهوته ، ومنها ما يقلص من طمعه وجشعه ، ومنها ما يخلخله في كيانه و وجدانه وجوانه ؛ ومنها مايزلزله في معرفته و ألفته .
و لهذا كانت العبادات في الإسلام نوعا من المجاهدة لقوله تعالى :
« وَالَّذِينَ جٰهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ » (سورة العنكبوت؛ الآية 69)؛
منها ما لا يطهر إلا بالصلاة ، ومنها ما لا يكفر إلا بالصيام ، و منها ما لا يستر إلا بالزكاة ، ومنها ما لا يغفر إلا بالحج .
1) فالصلاة تضحية ومجاهدة لأن المصلي يضحي بوقته استجابة لأمر الله » وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ »( سورة البقرة ؛ الآية43) ؛ فهو يجاهد نفسه لإقامتها في وقتها خمس مرات في اليوم
« فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۚ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا » ( سورة النساء؛ الآية 103) ؛ في كل وقت من يومه ؛ يجدد صلته بالله تعالى » أَرَأَيْتُمْ لو أنَّ نَهْرًا ببَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ منه كُلَّ يَومٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هلْ يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ؟ قالوا: لا يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ، قالَ: فَذلكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بهِنَّ الخَطَايَا. » ( صحيح مسلم )
إذن ، فالصلاة عبارة عن استحمام باطني تطهر المسلم من بعض ذنوبه بعد أن يحرص على إقامتها ، و حرصه عليها معاناة و رباط ؛ و الرباط مجاهدة لأنه يرابط في المسجد و يربط نفسه بما تكره حتى تطمئن إلى جنب الله تعالى « : حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ »( صحيح البخاري و مسلم ) و هي تألف عن طريق الارتياد و الاعتياد فتصفو سريرته من كل سوء و تسمو جهيرته بكل حسن » وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ » ( سورة العنكبوت ؛ الآية 45)
كما تجعل الصلاة ظاهره في بدنه و ثوبه و هندامه طاهراً نقياً نظيفاّ لأن من تمامها الوضوء و الطهارة، و تبث فيه روح الانضباط و المحافظة على الوقت و تساعده على التفكير و قوة التركيز و تمده -أيضا- بطاقة روحية و ذهنية تجعله يستعين بالله تعالى في كل حين ، و يتحكم في أعصابه بقوة لا تلين.
2) و الصوم تضحية ومجاهدة لأن الصائم يضحي بصحته مرضاة لربه » يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » ( سورة البقرة ؛ الآية183) فهو يجاهد نفسه لتحمل الجوع و العطش و الحرمان من الجماع فترة من الزمن خلال يومه؛ يصوم شهراً من كل عام لتنقية البدن من بقايا الدهنيات و فضلات الطعام و لتطهير النفس من زوائد الانشغال و الاهتمام، كما يمد الصائم بشحنة نفسية و مناعة بدنية و طاقة عصبية تجعله يضبط انفعالاته ونزواته ، و يسيطر على رغباته و شهواته إذ يربي فيه خميرة التحمل و يعوده الصبر على مواجهة نوازع النفس فتقوى إرادته و تحتد عزيمته .
3) أمّا الزكاة فهي تضحية ومجاهدة، لأن المزكي يضحي بماله تلبية لأمر الله تعالى:
» و آتوا الزكاة » ( سورة البقرة ؛ الآية 43) فهو يجاهد نفسه لإيتائها في وقتها لمستحقيها ؛ مرة في كل عام ؛ يعطي قدراً معيناً من ماله حسب طاقته لتطهير نفسه من الذنوب لقوله تعالى : » خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ »( سورة التوبة ؛ الآية 103). إذن ، فالزكاة عملية تطهير للنفس لأن الذي يؤتي الزكاة ، يعطي شيئا من نفسه بحكم ارتباطه بالمال، و لذا ، يجد في نفسه ألماً و معاناة تعبر عن صراع داخلي بين دوافع الخير و نوازع الشر حيث تنتصر بالعطاء و السخاء قوى الخير في الأخير فيتم التطهير و يقع التغيير . و الزكاة تمكنه من أن لا يسيطر عليه حب المال ، و تعينه على مقاشحة نفسه و تقليم أظافر أنانيته كما تبث فيه روح الكرم و الإيثار و تنفث في روعه الاهتمام بالجماعة.
4) وأمّا الحج فهو تضحية ومجاهدة، لأن المسلم يضحي بصحته و ماله ووقته مهاجراً إلى ربه في وقت معلوم : « الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ » ( سورة البقرة ؛ الآية: 197 ) ؛ تاركا وراءه متاعب الحياة و دنيا الملذات؛ يحج مرة في العمر و ليس عدة مرات لأن الحج يعلمه فن التجرد من زينة الحياة و الصبر على الأذى ، و الانسلاخ من علائق القرابة إلا القرابة في الله ، والهجرة من وحشة الخلق إلى الأنس بالحق تمهيداً للهجرة الأبدية ، و بعد خروجه من رحم المكان المقدس راجعاً إلى بلده ، يكون كمن خرج من رحم أمه بلا ذنوب و لا عيوب مغفوراً له « :مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ » ( صحيح البخاري و صحيح مسلم )
وبما أن هذه الأركان ؛ أركان الإسلام تؤسس شخصية المسلم تأسيساً قويّاً وتبنيه بناء سوياً ، فقد أوجب الإسلام على وجه الاستحباب تقوية للمسلم- روحياً ونفسياً و اجتماعياً-صلوات غير الصلاة المفروضة، و صدقات غير الزكاة المفروضة و أياماّ من الصوم غير الصيام المفروض وأوقاتاً للاعتمار غير الحج المفروض ؛ تتخللها أوراد وأذكار ومختلف الأدعية والاستغفار ليبقى المسلم دائم الصلة بالله جل علاه، ربانياً في دنياه حتى يلقاه و هو راض عنه في أخراه.
هذه هي الحكمة من وجوب هذه الفرائض وهذا هو المراد من وضع هذا التصميم الرباني
في إطار منهاج تربوي حكيم لتكوين شخصية المسلم بإحكام، فإذا فاته شيء لم يأته من العبادات الواجبة على وجه الإحسان و التمام، رقعه و رممه بهذه النوافل »…وَمَا يَزالُ عَبْدِي يتقرَّبُ إِلى بالنَّوافِل حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذا أَحبَبْتُهُ كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ بِهِ، وبَصره الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ الَّتي يَبْطِش بِهَا، ورِجلَهُ الَّتِي يمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سأَلنِي لَأَعْطيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَّنه » ( صحيح البخاري).
هذه العملية التي يقوم بها المسلم – إن صدق في إخلاصه و التزامه و انتظامه و انضباطه – لترميم و إصلاح نفسه بواسطة هذه العبادات في فترات مختلفة هي من أهم عوامل و مراحل التغيير – في الوقت ذاته -« : إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ »
( سورة الرعد ؛ الآية 11).
* أستاذ علوم و آداب اللغة العربية و التربية الإسلامية بالمغرب سابقاً .
أستاذ سابق بكلية العلوم الإنسانية بفرنكفورت /ألمانيا.
Aucun commentaire