الحلقة الرابعة من أحاديث رمضان : « ولتكبّروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون «
الحلقة الرابعة من أحاديث رمضان : (( ولتكبّروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ))
محمد شركي
مر بنا في حلقة سابقة أن الغاية من العبادات التي تعبّدنا بها الله عز وجل هي بلوغ تقواه، وهي طاعته سبحانه وتعالى فيما أمر وفيما نهى رغبة في مرضاته وخشية غضبه وسخطه وعقابه . ومع تحقيق تقوى الله عز وجل في العبادات تتحقق غاية أخرى وهي القيام بواجب شكره سبحانه وتعالى على كثرة نعمه التي لا يحصيها عد ،ولا يقابلها شكر مهما شكره الشاكرون . والعبادات مما أنعم به المنعم سبحانه وتعالى على العباد لما فيها من خير كثير يصيبونه منها .
ولو استعرضنا على سبيل الذكر لا على سبيل الحصر ما يصيب المسلم من خير حين يؤدي عبادة الصلاة لوجدناه يوقى بها السيئات لقول الله تعالى : (( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )) ، ومن يوقى الفاحشة والمنكر يحوز نعمة الرحمة لقوله تعالى على لسان ملائكته الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين : (( وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته )) ، وأية نعمة يظفر بها المسلم أعظم من نعمة الرحمة الحاصلة له جين يوقى السيئات ؟ وفي باقي العبادات يوجد مثل هذه النعمة وغيرها من النعم والتي تستوجب كلها الشكر.
وفي سياق الحديث عن عبادة الصوم، ذكر الله تعالى ما يتحقق من تقوى بممارستها في قوله تعالى : (( لعلكم تتقون أياما معدودات )) ، وأوجب شكرها على العباد بقوله : (( لعلكم تشكرون )) ، وقد ورد في كتب التفسير أن « لعل » في قوله تعالى قد سدت مسد » كي « ، وهو ما يفيد وجوب الشكر . وقد ورد أمره تعالى بالشكر في معرض حديثه عما يسّره على العباد في ممارسة هذه العبادة في حال مرضهم أو سفرهم حيث قال قبل أمرهم بالشكر : (( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون )) . وإنه مما يستوجب الشكر ههنا أن الله تعالى رحمة بالعباد رفع عنهم مشقة عبادة الصيام في حالي المرض والسفر ، وأمهلهم إلى الانتقال منهما بالشفاء أو بالإقامة . وتتجلى رحمته سبحانه وتعالى بإنعامه على العباد بنعمة الرخصة إذ لو ألزمهم بالعزيمة دونها لشق عليهم الأمر في هذه العبادة إذا ما مرضوا أو سافروا . وكيف لا يشكر المريض والمسافر ربهما سبحانه وتعالى على هذه الرخصة في أداء عبادة الصيام حيث يمهلهما أيام أخر من غير أيام شهر رمضان مع حصولهما على أجرهما كاملا غير منقوص كما لو أنهما قد صاما صام الناس في شهر الصيام ؟
وليست الرخص قاصرة على عبادة الصوم وحدها بل تشمل باقي العبادات، ذلك أن الصلاة لها رخصها في حالات معلوم في المرض والسفر حيث يرخص لمن لا يستطيع الغسل أو الوضوء لمرض أو سفر أو لتعذر وجود الماء بتيمم الصعيد الطاهر ، كما يرخص للمسافر بالتقصير ، وللمريض بأدائها قاعدا أو مضطجعا وللمجاهد والمسافر بأدائها ركوبا ، وكل ذلك من رحمة الله تعالى بالعباد . ولعبادتي الحج والزكاة رخصهما أيضا حيث يعفى منهما من لا يستطيع إلى الحج سبيلا ، أومن لا مال له .
ولقد أمر الله تعالى العباد بتكبيره لهدايتهم قبل أن يأمرهم بشكر نعمة ما يسره لهم لأداء فريضة الصيام ، فقال سبحانه : (( ولتكبروا الله على ما هداكم )) و قد ربط بين الأمرين لأن التكبير صيغة من صيغ شكر الله تعالى كحمده وكالثناء عليه بما هو أهل له . والتكبير يكون في كل العبادات من صلاة وصيام وحج .
ومما يستوجب شكر المولى جل وعلا أنه تفضل على عباده المؤمنين بالصيام والقيام في الأيام المعدودات من شهر رمضان مقابل مغفرة ما تقدم من ذنبهم، ومقابل العتق من النار، ومقابل استجابة دعائهم حيث ذكر سبحانه وتعالى قربه منهم واستجابته دعاءهم مباشرة بعد حديثه عن إنعامه عليهم بنعمة الصيام فقال جل شأنه : (( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان)) وإجابته دعاءهم سبحانه رهينة باستجابتهم له حيث قال مباشرة بعد أن أخبرهم بقربه منهم وبإجابة دعوتهم : (( فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون )) ، ورشدهم إنما يتحقق بإيمانهم به حق الإيمان، وبالاستجابة له ائتمارا بأوامره وانتهاء عن نواهيه . والاستجابة له سبحانه لا تقتصر على أيام شهر الصيام المعدودات دون غيرها بل تستمر بعدها طيلة أيام السنة ، وطيلة أيام أعمار العباد. وما الاستجابة لله تعالى في أيام رمضان المعدودات سوى دورة تكوينية أو تدريبية للعباد على الاستجابة المستمرة له بعد انقضاء رمضان، ذلك أن عبادة الصيام هي عبادة إخلاص خالص لله تعالى لا يشوبها رياء، ولا يعلم إخلاصها إلا هو سبحانه وتعالى، لهذا جاء في الحديث القدسي : » كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به » . وهذه رحمة منه سبحانه و تعالى بالعباد تقتضي منهم الشكر الكثير .
Aucun commentaire