صدى السنين ـ فرسان الأنفاق ـ للمؤلف قاسم رابح واعمر ـ الحلقة 8 ـ
الحي الأوروبي والحي المغربي
كان الفرق شاسعا بين السكن بالحي الأوروبي وبين السكن بحي المغاربة، بل ليس هناك مجال للمقارنة.. كانت مجرد النظرة إليهما ترسخ في نفوسنا عُقَدًا من الإحساس بالنقص والغبن.. إذ الحي الأوروبي كان عبارة عن فلات كبيرة وسط حدائق خضراء تزينها أنواع من الأزهار والورود والنباتات والشجيرات ذات روائح طيبة وذات ألوان تبهر العيون.. فلات كبيرة تحتوي على عدة حجرات تغمرها أشعة الشمس طوال النهار ويعمها الهواء النقي من كل جانب… أما الحي المغربي فهو عبارة عن قبور لكائنات حية.. تسمى عمال المناجم وذويهم وهي عبارة عن غرفة أو غرفتين بدون نوافذ، لا ترى الشمس ولا الهواء إلا من خلال بهو صغير ينتهي بالمرحاض « البلدي » الذي غالبا ما يكون « مخنوقا » ولا يستطيع ابتلاع فضلات السكان بالسرعة المطلوبة، فتبقى عائمة فوق سائل يبعث روائحه في كل اتجاه.. وخاصة إلى المطبخ الذي لا يبعد عنه إلا بمترين…
في مثل هذه القبور عاشت طبقة العمال المنجميين بجرادة لعدة عقود مع أسرهم، آلتي كان معدل عدد أفرادها لا يقل عن سبعة.. وفي مثل هذه القبور، ترعرعت أجيال وأجيال من أبناء أبطال المناجم بمدينة جرادة، الذين أصبحوا أطرا عليا في الإدارات المغربية وأساتذة جامعيين وأطباء ومهندسين ومدرسين… وأشير إلى أن رغم محنة هؤلاء فقد كنا نحن المنحدرين من القرى المجاورة، كنا نغبطهم على النعم آلتي عاشوا فيها… ولم نكن نشعر بمأساتهم إلا عندما نعلم بموت والد أحدهم أو قريب من أقاربهم..
***
في جرادة..
الموت كان عاديا..
كان وقع أخبار الموت على النفوس في جرادة يكاد يكون عاديا،.. خلافا لما ألفناه في القرى من طقوس الحزن والبكاء الشديدين، ثم التذكير بمناقب وفضائل الفقيد لمدة طويلة،.. فحتى خبر الموت في حد ذاته، فَقَدَ عنصر المفاجأة.. وذلك لأن المريض بالسليكوز كان يعيش فترة من مرضه طريح الفراش بين أهله، وغالبا ما كانت هذه الفترة تطول، وكان المريض يتعذب أمام أعين ذويه، الذين لا يستطيعون فعل أي شيء مع مرضه العضال،.. ومن هنا ألف الناس الموت بل واحتكوا به كثيرا ورأوه رأي العين،.. وكانت هناك حالات لهؤلاء المرضى الذين عانوا الأمرين قبل التحاقهم بالرفيق الأعلى، حالات اليأس التام من الشفاء.. فترة يتجند خلالها الأقارب عن بكرة أبيهم لإسعاف مرضاهم أو التخفيف من ألمهم.. ولكن المدة تطول.. ويطول سعال المريض.. وتطول حشرجته وكأنها حبل يلتف حول عنق المريض، ولا يزداد إلا ضيقا يوما بعد يوم .. ويطول العذاب ويصاب الأقارب بالإرهاق…. ولا يجدون ملجأ من الله إلا إليه، فيتوجهون إليه ليعجل براحة مريضهم.. ومن هنا يصبح الموت دواء لمن لا دواء له… ومن هنا يصبح الموت رغم بشاعته عند جميع المخلوقات.. يصبح رحمة.. فسبحان من قهر العباد بالموت… وكم كان صعبا على الإنسان الذي كان يعرف المريض عندما كان صحيحا وقويا، وعندما كان ينازل عروق الفحم في الأنفاق… كان من الصعب عليه أن يراه وقد تحول إلى هيكل عظمي لا حول ولا قدرة له…
***
جرادة.. » إلياذة » لم تكتمل فصولها…
ربما كان على المثقفين الذين يهتمون بالأدب الشعبي أن يدفعوا بالحكاية الشعبية في الاتجاه الإيجابي،.. ويوظفوا لأهدافها النبيلة خيالهم الذي لا يجب أن يجد حرجا في استعمال الحيوانات كما استعملتها الذاكرة الشعبية، ويضيفوا إليها ممثلين من عوالم أخرى، بالإضافة إلى الإنسان الذي سيبقى، بطبيعة الحال، قطب الرحى..، في عالم يتنازعه الخير والشر منذ الأزل، رضينا بذلك أم أبينا..وذلك انتصارا للقيم الإنسانية الفاضلة وللأخلاق النبيلة الحميدة..
فقد كان علينا مثلا أن نستوحي أشياء كثيرة من تصرفات حشرة الجراد التي « حرقت » على ظهر خروف بالمفهوم المتداول حاليا لكلمة « لحريق » وألا نكتفي بإطلاق اسمها على المكان فقط.. فكأني بالجرادة كانت تريد أن تقول لنا بأن أرض الله واسعة « فسيروا في مناكبها وكلوا من رزقه ».. كانت تريد أن تنبهنا إلى شيء أساسي أسمه الهجرة باستعمال الوسائل المتاحة.. وهذا بالضبط في الوقت الذي اتخذت فيه الكثير من الشعوب الهجرة كحل لمعضلة التنمية لديها ..
كما كان علينا ربط الوقائع ببعضها لتكتمل في مخيلتنا الصور الخيالية الملحمية التي وكأن الحكاية تدفعنا إليها دفعا.. فمن يدري.. فربما في الوقت الذي ركبت فيه الجرادة ظهر الخروف لتسافر إلى المكان الموعود.. كانت الأرانب من جهتها بصدد تلطيخ أرجلها بالأتربة الفحمية السوداء.. غير بعيد عن المكان المرشح لإجراء أضخم مناورات الفحم من فصول « إلياذة » جرادة.. وذلك قبل أن تصبح الأرانب هدفا لرصاص بندقية الطبيب البلجيكي.. ومن هنا كان علينا ألا نقتل الحكاية في مهدها.. كان يجب علينا أن لا نسدل الستار على عنفوان ملحمة تطفح بالأمل وتوحي بالمفاجآت وقد بدأت معالم فصولها تتضح وذلك بعد أن تأكد للطبيب، بالملموس، وجود الفحم الحجري الذي يمكن للخيال أن يقدمه في شكل عملاق مشوه الخلقة أعمى وأصم.. هذا العملاق الذي هو من أصل شيطاني عصى ربه في أزمنة غابرة فعاقبه بإبقائه نائما منذ ملايين السنين في أعماق الأرض التي حطت عليها حشرة الجراد..
العملاق المشوه : مفتول العضلات ومكون من مادة حجرية قابلة للاحتراق، العملاق المخيف لا يرى ولا يسمع، ولكنه لا يؤذي أحدا إلا إذا حاول المغامرون كسر جسده الضخم الممتد في كبد الأرض على طول وعرض آلاف الأمتار تحت الأعماق.. وحتى في حالة كسر جزء من جسده فإنه يكتفي بإخراج غبار أسود رقيق وسريع الانتشار.. من جسده الذي ينفثه في المساحات الفارغة.. وقد تبين لبني الإنسان، وعلى مدى سنين طويلة أن هذا الغبار الذي يسمى السليس، يتسبب في مرض عضال يصيب الجهاز التنفسي، ويدعى السليكوز… ولا يصيب في واقع الأمر إلا من سولت له نفسه كسر أطراف من جسم العملاق..
إن العناصر الملحمية الموجودة في قصة اكتشاف الفحم بجرادة.. والتي تبدو منذ الوهلة الأولى وكأن الواقع فيها قد اختلط بالخيال.. وذلك نظرا للحمولة الغيبية الخرافية التي تطبع مجريات أحداثها والتي يصعب على الفكر المعاصر التعايش معها.. قلت إن هذه العناصر وإن كانت مجرد فسحة لخيال الذاكرة الشعبية المتعطشة لإنزال بدائع الخيال الجميل على الواقع المر المعاش.. فإنها تجعل المرء يميل إليها ويستأنس بها ولا يرى أي عيب في مسايرتها في أبعادها الجميلة…
وكما كانت هذه الذاكرة قاسية في حق الجرادة التي لا نزال نتساءل عن مصيرها بعد أن سجلت حضورها لدى العامة ولاحظ الجميع أنها وصلت إلى الغابة بجبل غير بعيد عن مركز جرادة الحالي.. فإنها كانت أكثر قسوة في حق الأرانب الذين صبغوا أرجلهم بغبار الفحم الحجري.. ولا ندري كيف فعلوا ذلك.. وكيف صادفوا منجم الفحم أثناء الحفر لجحورهم.. بل ومن حملهم على الحفر بالضبط في جسم العملاق الأصم الأبكم الراقد تحت الأرض.. الذي يكون قد أصابهم بغباره القاتل.. قبل أن يصيبهم رصاص بندقية الطبيب..
إنها أسئلة كثيرة يحق لكل قارئ أن يطرحها.. ولكن الأكيد أنه سوف لن يجد الجواب عنها.. لأنها أسئلة طرحت من أعلى قمة خيال العقل الشعبي الذي صاغ الحكاية.. وليست كأية حكاية عادية.. بل إنها حكاية شعبية ملحمية تطرح نفسها بدورها كأجوبة محتملة لأسئلة مستعصية في سجل تفسير الأشياء ..
وهكذا، فإذا كانت أبواب المنجم قد أغلقت في الواقع، فيجب أن تبقى فصول « إلياذة » جرادة الملحمية مفتوحة تنمو وتتطور في الذاكرة الجماعية لأبنائها بدلا من إغلاقها.. فمن يدري فقد تتمخض شوارع جرادة عن ميلاد « هوميروس » من زمن آخر يرسم لجرادة « إلياذتها » ليطرح أمامها كل البدائل المحتملة لتستمر الحكاية فتفتح أبواب المناجم من جديد وليعود فرسان الأنفاق إلى منازلة العمالقة في الأعماق المظلمة… أو ليدشن فصولا أخرى أكثر نجاعة وتفاؤلا وأجمل منظراً من مناظر الموت من أجل رغيف أسود
===
يتبع
Aucun commentaire