قراءة إجمالية في سورة الأحقاف: الوقوف عند مواطن الهدى المنهاجي.
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
قراءة إجمالية في سورة الأحقاف: الوقوف عند مواطن الهدى المنهاجي.
إعداد:عبد المجيد بنمسعود
أولا: توطئة وتأطير:
قال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير:
سميت هذه السورة « سورة الأحقاف » في جميع المصاحف وكتب السنة، ووردت تسميتها بهذا الاسم في كلام عبد الله بن عباس. روى أحمد بن حنبل بسند جيد عن ابن عباس قال أقرأني رسول الله سورة من آل حم وهي الأحقاف، وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت ثلاثين. وكذلك وردت تسميتها في كلام عبد الله بن مسعود أخرج الحاكم بسند صححه عن ابن مسعود قال: أقرأني رسول الله سورة الأحقاف الحديث. وحديث ابن عباس السابق يقتضي أنها تسمى ثلاثين إلا أن ذلك لا يختص بها فلا يعد من أسمائها. ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم.
ووجه تسميتها « الأحقاف » ورود لفظ الأحقاف فيها ولم يرد في غيرها من سور القرآن.
وهي مكية قال القرطبي: باتفاق جميعهم، وفي إطلاق كثير من المفسرين. وبعض المفسرين نسبوا استثناء آيات منها الى بعض القائلين، فحكى ابن عطية استثناء آيتين هما قوله تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ} إلى {الظالمين} فإنها أشارت إلى إسلام عبد الله بن سلام وهو إنما أسلم بعد الهجرة، وقوله {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الاحقاف: 35]. وفي الإتقان ثلاثة أقوال باستثناء آيات ثلاث منها الاثنتان اللتان ذكرهما ابن عطية والثالثة {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} إلى قوله {خاسرين} . [الأحقاف: 15-18]….
وهذه السورة معدودة الخامسة والستين في عداد نزول السور، نزلت بعد الجاثية وقبل الذاريات.
وعدت آيها عند جمهور أهل الأمصار أربعا وثلاثين، وعدها أهل الكوفة
خمسا وثلاثين والاختلاف في ذلك مبني على أن {حم} تعتبر آية مستقلة أو لا.
أغراضها
من الأغراض التي اشتملت عليها أنها افتتحت مثل سورة الجاثية بما يشير إلى إعجاز القرآن للاستدلال على أنه منزل من عند الله. والاستدلال بإتقان خلق السماوات والأرض على التفرد بالإلهية، وعلى إثبات جزاء الأعمال. والإشارة إلى وقوع الجزاء بعد البعث وأن هذا العالم صائر إلى فناء. وإبطال الشركاء في الإلهية. والتدليل على خلوهم عن صفات الإلهية. وإبطال أن يكون القرآن من صنع غير الله. وإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم واستشهاد الله تعالى على صدق رسالته واستشهاد شاهد بني إسرائيل وهو عبد الله بن سلام. والثناء على الذين آمنوا بالقرآن وذكر بعض خصالهم الحميدة وما يضادها من خصال أهل الكفر وحسدهم الذي بعثهم على تكذيبه. وذكرت معجزة إيمان الجن بالقرآن. وختمت السورة بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأقحم في ذلك معاملة الوالدين والذرية مما هو من خلق المؤمنين، وما هو من خلق أهل الضلالة.
والعبرة بضلالهم مع ما كانوا عليه من القوة، وأن الله أخذهم بكفرهم وأهلك أمما أخرى فجعلهم عظة للمكذبين وأن جميعهم لم تغن عنهم أربابهم المكذوبة. وقد أشبهت كثيرا من أغراض سورة الجاثية مع تفنن.
ثانيا: قراءة إجمالية في السورة:
يمكن تقسيم سورة الأحقاف إلى خمسة مقاطع، يشكل كل منها وحدة فرعية تتكامل مع الوحدات الأخرى. وفيما يلي عرض لمضامين تلك المقاطع:
المقطع الأول: من قوله تعالى: » حم تنزيل الكتاب من الله االعزيز الحكيم » إلى قوله تعالى: » وهم عن دعائهم غافلون » ( 1- 5).
في هذا المقطع يقرر الله عز وجل الحقيقة الثابتة الناصعة التي لا يعتريها شك ولا يحوم حولها ريب، حقيقة التنزيل، تنزيل الكتاب من عنده تعالى، رابطا هذه الحقيقة الكبرى باسمين من أسمائه الحسنى (العزيز الحكيم)، بكل ما يعنيه هذان الاسمان الجليلان من معاني ودلالات.
ومباشرة بعد تقرير هذه الحقيقة المركزية الكبرى، يقرر سبحانه وتعالى حقيقة أخرى، تتعلق بخلق السموات والأرض وما بينهما، وأن هذا الخلق لم يكن إلا بالحق وأجل مسمى.
ولعل مما يستشف من هذا الاقتران في تقرير الحقيقتين، أن كلا من الكتاب المسطور الذي هو القرآن الكريم، والكتاب المنظور الذي هو هذا الكون ومافيه من عجائب الخلق ودلائل الحق، يرشد الأفهام ويوجه الأنظار إلى الحقيقة العليا: حقيقة وجود الخالق المتصف بجميع صفات الكمال، الله عز وجل، هذه الصفات التي يستعرضها الكتاب المسطور بيانا وتدليلا، ويعكسها الكتاب المنظور خلقا وتقديرا. وأن الإنسان المخاطب بالقرآن ، خليق به أن يوظف طاقات الفهم والإدراك والتفكر التي وهبه الله عز وجل إياها ليصل إلى أن الله سبحانه وتعالى، خالق السموات والأرض وما بينهما بالحق، وهي مخلوقات متناهية في الدقة والتناسق، والإبداع والجمال، هو الذي أنزل الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي يمثل غاية الإعجاز، في نظمه وتناسقه، وفيما يحتويه من حقائق تتعلق بهذا الكون نفسه، وبالإنسان الذي جعله خليفة فيه، وبما يهبه المؤمنين به العاملين بهداه، من إمكانيات الخلق والإبداع، والنهوض والارتقاء. وبما يؤول إليه هذا الوجود عندما تنتهي وظيفته وما هو مخول له من أدوار، يوم تجتمع الخلائق في يوم لا ريب فيه، بين يدي الواحد الديان.
في هذا المقطع يشهر الله عز وجل تحديه في وجه الجاحدين للرسالة التي هي هذا الكتاب المنزل من عند الله جل وعلا، والذين يدعون آلهة من غير الله، بأن يبرهنوا على دعاواهم الباطلة بشواهد ملموسة تثبت أن لهم نصيبا من خلق السموات والأرض إن كانوا صادقين.
2 – المقطع الثاني: (من قوله تعالى وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء) إلى قوله تعالى: ( أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون)( 6- 14): يورد الله عز وجل في هذا المقطع الحديث عن الخيبة الكبرى التي يتجرع مرارتها هؤلاء الكفار الجاحدون للرسالة، والمتمثلة في مناجزة من كانوا يدينون لهم بالعبادة والولاء، مناجزتهم النكران والعداء.
كما يصور هذا المقطع الكريم موقف تلك الفئة الجاحدة الضالة من الحق، وهي تتذرع بأسلحتها المفلولة الواهية، من قبيل اتهام الرسول عليه الصلاة والسلام بالسحر، وباختلاق القرآن من عند نفسه، وتأييد الله عز وجل لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بالحجج البالغة والمنهج السديد في الردعلى دعاوى المبطلين، مما لا يجدون معه بدا بين الاختيار بين أمرين لا ثالث لهما: إما ترك المكابرة والعناد، والإذعان للحق الذي يحررهم من وضعهم النكد المأزوم، وإما التمادي في الغي والإمعان في النكوص عن الحق الذي يورثهم الخزي في الدنيا وسوء العقبى في الآخرة.
ومن أركان ذلك المنهج السديد في مجادلة المعاندين المبطلين، تفكيك أقاويلهم و كشف تهافتها وزيفها عبر أسلوب حواري بديع وصارم. فهي دعاوى فجة يعوزها المنطق والدليل، ولا تستند إلى غير التخرصات والأهواء.
ويتوج ذلك الأسلوب الحواري المتين بإرجاع الأمر إلى الله عز وجل صاحب الشأن والأمر، واتخاذه حكما وشاهدا على ما يفيض فيه القوم ويخوضون فيه من شبهات، ويغوصون فيه من أوهام، فهو الكفيل بحسم المعركة بين الحق والباطل، مصداقا لقوله تعالى: » ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون »( الصافات، 171)
إنه منهج يقوم على الحكمة في أعلى تجلياتها وأرقى مداخلها، وأرسخ مبادئها وقواعدها.
ومما يستشف من هذا المقطع الكريم، أهمية الحوار البناء، المسلح بسلاح الحجة والدليل، ودوره الحاسم في كشف زيف المزيفين المبطلين، وفضح خوائهم، وتهافت منطقهم.
ومن ميزات هذا المنهج الحواري، كما تبدو في هذا المقطع، المزاوجة بين المحاكمة العقلية والمنطق الصارم العميق، وبين استجاشة الوجدان، وهي ميزة تطبع النظم القرآني البديع في سياقاته المتنوعة، الهادفة إلى الإقناع بحقائق الرسالة، ورد الشاردين إلى حظيرة الحق والرشاد. من ذلك على سبيل المثال: قول الله تعالى: » قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، إن أتبع إلا ما يوحى إلي، وما أنا إلا نذير مبين » ( الآية 9).
3 – المقطع الثالث: ( من قوله تعالى: ( ووصينا الانسان بوالديه حسنا) إلى قوله تعالى: (بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير حق وبما كنتم تفسقون)( 15- 20).
ويتناول هذا المقطع قضية عقدية أخلاقية كبرى هي قضية الآصرة المقدسة التي تربط بين الوالدين والأولاد، وتقتضي الاهتداء فيها بشرع الله عز وجل المعبر عن الفطرة، وأمره سبحانه وتعالى بلزوم الإحسان، وصية عزيزة منه سبحانه وتعالى لهذا الإنسان، بما يحقق سموه الأخلاقي، ويضمن طمأنينته وسعادته وحسن عاقبته.
ويعرض هذا المقطع لنموذجين متضادين :نموذج الولد البار بولديه، المحسن إليهما، الشاكر لنعم الله جل وعلا، عليه وعلى والديه، وما يستحقه هذا النموذج المشرق الوضاء من بشارة بالجزاء الحسن، المتمثل في القبول الحسن،والتجاوز عن السيئات، وكونه من أصحاب الجنة.
ونموذج الولد الجاحد الذي يواجه والديه بالجحود والنكران، وبالصفاقة والعدوان، وبالنكوص عن طريق الحق والإيمان، الذي دعاه إليه الوالدان، وما ينجم عن هذا الموقف المشين من سوء العاقبة وحصاد الخسران، صحبة من شاركوه نفس المصير المشؤوم من الجن والإنس.
ويكشف هذا المقطع في ختامه، أن ذلك المصير المريع ( عذاب الهون)، هونتاج وبيل وجزاء وفاق لخصلة الاستكبار في الأرض بغير حق، وسلوك الفسق الذي يصدر من نفوسهم الخبيثة الجانحة.
ويقتضي هذا المقطع الكريم على مستوى الهدى المنهاجي إيلاء العلاقة بين الأولاد والوالدين ما تستحقه من رعاية واهتمام، حرصا على سلامة المجتمع من الأكدار، ومن مظاهر التفكك والانفجار، وتأهيله ليكون على قدر وافر من التناسق والانسجام، بفضل إشاعة قيم البر والإحسان والوفاء، عبر قنوات التنشئة والتهذيب، لكل من الأبناء والآباء.
4 – المقطع الرابع: من قوله تعالى: » واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف » إلى قوله تعالى: » بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون » (21 – 28).
يعرض هذا المقطع الكريم قصة نبي الله هود عليه السلام مع قومه، وما أبلاه من بلاء حسن من أجل هدايتهم ودعوتهم إلى عبادة الواحد الأحد، وما ووجه به من قبلهم من صدود وعناد، وما نالهم جراء ذلك من عذاب استعجلوه بسفاهتهم عندما قالوا: » فاتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) الآية 22).ويتضمن هذا المقطع الكريم نعي الله عز وجل على قوم هود عدم استثمارهم لما وهبهم إياه من سمع وأبصار وأفئدة، فلم تغن عنهم بسبب جحودهم المسبق، وخلفياتهم الفاسدة، وكان مصيرهم ما تجرعوه من سوء النكال ومرارة الهلاك.
ويبرز هذا المقطع على مستوى الهدى المنهاجي ضرورة تنمية ما وهبه الإنسان من ملكات وقدرات في الاتجاه الصحيح الذي يمكنه من إدراك حقائق الوجود، والانتهاء إلى الحقيقة الكونية الكبرى المتمثلة في وجود الله عز وجل وقيوميته واستحقاقه لإفراده عز وجل بالعبودية والطاعة ، وإعلان الولاء التام له سبحانه، بتنفيذ أحكام شريعته في أرضه، والالتزام بمنهجه القويم جملة وتفصيلا لإدراك السعادة الشاملة في الدنيا والآخرة.
كما يقتضي منطوق هذا المقطع ومفهومه إزاحة كل العوائق من بيئة المجتمع المسلم الثقافية والاجتماعية التي من شأنها أن تحول دون الحصول على تنشئة سليمة تبوئ الإنسان مقامه الرفيع كخليفة في الأرض، يصلحها ويعمرها بأمر الله عز وجل.
4 – المقطع الخامس: من قوله تعالى: » وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن » إلى قوله تعالى: » فهل يهلك إلا القوم الفاسقون »( 29 – 35).
يعرض هذا المقطع الكريم قصة صرف الله عز وجل لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم نفرا من الجن يستمعون القرآن، وما كان من تصديقهم به، وبوظيفته الكبرى المتمثلة في هدايته إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ومن مبادرتهم فور استماعهم له إلى دعوة قومهم إلى إجابة داعي الله عز وجل الذي هو رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، والإيمان به لنيل الغفران والإجارة من العذاب الأليم.
كما يؤكد هذا المقطع الكريم قدرة الله عز وجل وهيمنته المطلقة على هذا الكون، فلا يعجزه فيه أحد، وأن كل شيء بقبصته سبحانه وتعالى، وأنه جل وعلا قادر على إحياء الموتى،وأنه على كل شيئ قدير.
ويتضمن هذا المقطع حقيقة عرض الذين كفروا على النار، في مشهد رهيب من مشاهد يوم القيامة، وما يجري على ألسنتهم من إقرار واعتراف بالحق الذي جاءهم على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يتعرضون له من عذاب لقاء كفرهم وجحودهم.
ويختم هذا المقطع الخامس والسورة الكريمة بتوجيه الله عز وجل أمره لنبيه الكريم وخاتم رسله وأنبيائه عليه وعليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام، بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام. يقول الله تعالى: » فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ، فهل يهلك إلا القوم الفاسقون » ( الآية 35).
خاتمة: إن من شأن هذه الوقفة التدبرية لآيات سورة الأحقاف، أن تفتح أبصارنا وبصائرنا على حقائق تتعلق بالكون والألوهية والإنسان، وبطبيعة الصراع الأبدي بين الحق الذي تحمل لواءه الفئة المؤمنة بصدق الرسالة الخاتمة وهيمنتها على سائر الرسالات، وبين الباطل الذي يحمل لواءه لفيف شياطين الإنس والجن ممن ديدنهم القعود على الصراط المستقيم لإغواء الناس وصرفهم عن الحق، ليخلو لهم الجو ويستتب لهم الأمر، كما يتخرصون، ضدا على سنة الله في الأرض القاضية بتهاوي الأصنام بجميع أشكالها وأنواعها، وظهور الحق، بكل شموخ وعنفوان، وسطوع شمسه حيثما حل الإنسان، مطلق الإنسان.وصدق الله القائل: » لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، إن الله لقوي عزيز »( الحديد: 25).
Aucun commentaire