مجرد رأي في ثقافة الماء
أحمد الجبلي
تشرفت البارحة بحضور ملتقى سنوي اجتماعي جمع الأصدقاء وندماء الزمن الغابر(السكة القديمة)، فدار النقاش حول الماء تفاعلا مع حدث انقطاعه يوم العيد عن بعض أحياء مدينة وجدة، فكان النقاش منبئا عن سلوك حضاري تقدمي، إذ من الوعي أن يتم مناقشة قضايا مجتمعية حيوية في سمور ليلية عائلية سواء جمعت الأحباب أو الأصدقاء، ومن الرقي الفكري والنبوغ المعرفي أن ينتشر الهم بقضايا الناس والأمة فيكتسح المجالس والمقاهي والمنتديات وحتى ليالي السهر والسمر رفقة الأُلاَّف والخلان.
وعلى اعتبار أن الأفكار تصنع المعتقد والمعتقد يصنع السلوك والسلوك يصنع العادة والعادة من شأنها أن تحدد مصير الناس، وانطلاقا من كون الخُلُق كي يتحول إلى قيمة يجب أن يمر عبر مراحل ثلاث أولها المعرفة، يمكن القوم بأن كل ما دار من نقاش حول موضوع الماء كان مقدمة معرفية وهي بداية تحقيق ثقافة الماء وتجسيدها كسلوك له تمثلات في واقع الحياة لدى الناس.
إن التعامل مع أي شيء ثمين كالماء يخضع في منطق الناس إلى مرحلتين تستوجبان سلوكين متناقضين، وهما مرحلة الرخاء ومرحة الشدة، فمرحلة الرخاء عندما تنعدم ثقافة الحال والوعي بالمآل، عادة ما يتعامل معها الناس باستهتار وتسيب ولا مبالاة خضوعا للاغترار بدوام الحال والجهل بما يمكن أن يؤول إليه الوضع نتيجة عدم الوعي بالمآل.
وإدراكا لخطورة الأمر، عندما يتفشى منطق التفسيخ، كما يقول كليم صديقي رحمه الله، في التعاطي مع الماء، أستحضر ما قاله الإمام الفقيه الأصولي والمفسر فخر الدين الرازي (606هـ) وهو يتحدث عن نعمتي الهواء والماء، إذ قال: إن الله تعالى علم أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بدون هواء، فجعل الهواء موجودا في كل مكان، أي إن الإنسان، من موقع التجربة والحقيقة، لا يستطيع أن يعيش أكثر من دقيقة أو دقيقتين إن هو حرم من الهواء، كما أن نعمة الله اقتضت، رحمة بهذا الإنسان، أن لم يجعل لأي أحد أي سلطة على الهواء حتى لا يقنن أو توضع له عدادات من طرف دول أو حكومات الاستكبار العالمي فتموت الشعوب الفقيرة، كما قال: وقد علم الله أن حاجة الإنسان إلى الماء أقل من حاجته إلى الهواء فجعل نسبة الماء أقل من نسبة الهواء، أي إن الإنسان يستطيع أن يعيش بدون ماء لأيام فكان تقدير الله لهذه النسب منسجما مع حاجات الإنسان لهذه المواد الحيوية التي لا غنى عنها.
ولذا، فإن المنطق السليم يفرض على الإنسان، كمعالجة لإتلاف الماء والعبث فيه، أن يتعامل مع قيمة الماء إدراكا لأهميته في الحياة تماما كما يتعامل مع قيمة الهواء، أي إن الإنسان إن استمر في إسرافه وعبثه وسوء تدبيره للماء، يمكن أن يأتي يوم تستوي فيه قيمة الماء مع قيمة الهواء، فيصير الوضع على شاكلة « من لم يشرب يمت » فيتحول الماء إلى أعز مفقود، أي سيتحول إلى كنز مفقود يُمنح في سبيل الحصول عليه كل غال ونفيس. ( قل أرأيتكم إن أصبح ماؤكم غورا فمن ياتيكم بماء معين). فينتقل الإنسان بذلك، فجأة، إلى مرحلة الشدة التي جاءت كنتيجة لسوء التعامل مع مرحلة الرخاء، أي يوم كان الماء يسيرا ميسرا ومتدفقا رقراقا.
إن الإسلام وحده من لا يميز بين مرحلة الرخاء ومرحلة الشدة، فخلاف جميع الحضارات وكذا الدول القوية المعاصرة التي غالبا ما تلجأ إلى وضع سياسات في إطار « تدبير الأزمات ».
إن الإسلام حدد مبادئ وقيما شكلت جوهر الثقافة المائية، وهي ثابتة وغير متحولة، فرضت على الإنسان أن يتعامل مع الماء بمنطق خاص لا يتغير سواء كثر الماء أو شح، فاض أو غار، « لا تسرف في الماء ولو كنت على نهر جار » إن هذا الحديث لا يجيز لأي إنسان مسلم التصرف حسب هواه أو إرادته ورغبته عندما يتعاطى مع الماء، حتى ولو كانت كمية المياه التي في حوزته في حجم البحار والأنهار. وإذا كانت العبادة هي مناط خلق الإنسان، ولم يخلقه الله إلا لأجلها، وأسمى تجليات هذه العبادة هي الصلاة وهي خير من الدنيا وما فيها، ورغم ذلك لم يجز الإسلام الإسراف في الوضوء استعدادا للصلاة. وبهذا المنطق هل سيكون جائزا الإسراف في أمور هي أدنى بكثير من أمور الدين كالصلاة؟
وعلى غرار مبدأ « لا تسرف في الماء ولو كنت على نهر جار » يأتي مبدأ « إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين » وهو مبدأ إنذاري خطير، أشبه بالوعيد من الذي أنزل من السماء ماء فمنه شراب ونبات مختلف ألوانه ومنه مراعي للأنعام والأغنام. وبالمنطق الرياضي للقانون الثلاثي يصير الإسراف رديفا للشيطان إذ يلتقيان في العداوة للإنسان.
1 Comment
لا فُض فوك، ولا كُسر قلمك. أفدت وأجدت أخي أحمد.