النصف الفارغ من الكأس يفسد الحياة
أحمد الجبلي
في ليلة رأس السنة، جلس المؤلف الكبير أمام مكتبه وأمسك بقلمه وكتب: « في السنة الماضية أجريت عملية إزالة المرارة، ولازمت الفراش عدة شهور، وبلغت الستين من عمري، فتركت وظيفتي المهمة في دار النشر التي ظللت أعمل بها ثلاثين سنة.. وتوفي والدي.. ورسب ابني في كلية الطب لتعطله عن الدراسة عدة شهور بسبب إصابته في حادث سيارة..
وفي نهاية الصفحة كتب: « يا لها من سنة سيئة »
ودخلت زوجته غرفة مكتبه، ولاحظت شروده، فاقتربت منه فقرأت ما كتب. تركت الغرفة، وبعد دقائق عادت وهي تحمل ورقة أخرى فوضعتها بهدوء بجوار الورقة التي كتبها زوجها، وتناول الزوج ورقة زوجته وقرأ منها: »في السنة الماضية، شفيت من آلام المرارة التي عذبتك لسنوات طويلة، وبلغت الستين وأنت في تمام الصحة، وستتفرغ للكتابة والتأليف بعد أن تم التعاقد معك على نشر أكثر من كتاب مهم، وعاش والدك حتى بلغ الخامسة والثمانين بغير أن يسبب لأحد أي متاعب، وتوفي مستورا في هدوء بغير أن يتألم، ونجا ابنك من الموت في حادث سيارة وشفي بغير أية عاهات أو مضاعفات، وختمت الزوجة عبارتها: « يا لها من سنة تغلب فيها حظنا الحسن على حظنا السيء ».
عندما يعيش الإنسان في حياته بخطاب إيجابي يربح أعصابه وراحة باله من جهة، ويفتح شهية الإنجاز والفعل لدى الآخرين، وعندما لا يتحدث إلا على ما هو سلبي ولا يركز إلا على النصف الفارغ من الكأس فهو يحول بذلك حياته وحياة الآخرين إلى جحيم لا يطاق. مع العلم أن الوضع لن يتغير لأن الواقع لا يرتفع.
فما معنى التركيز على السلبيات وغض الطرف عن الإيجابيات؟ أي عدم الالتفات إلى إنجازات الآخرين وأعمالهم المفيدة وسماتهم الكريمة ومعاملاتهم الرائعة، وفي مقابل ذلك يتم التركيز أثناء مخطابة الآخر فقط من خلال السلبيات التي فيه وتضخيم أخطائه الحاضرة والماضية، وإحصاء زلاته ووضعها تحت المجهر حتى تبدو كأنها حمر مختلف ألوانها أو غرابيب سود؟
إن كل خطاب نتبناه، وكل جملة نتفوه بها أثناء حديثنا إلى الآخر، إلا ويمكن صياغتها صياغات مختلفة، أي يمكن صياغتها في شكلها الإيجابي الذي يحقق نتائج جمة ومبهرة، كما يمكن صياغتها بشكل سلبي وبالتالي تحقق نتائج عكس ما نريد.
عندما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن عمر لا يصلي من الليل، كان من الممكن أن يقول كما نقول نحن عادة: « بئس الرجل عبد الله لأنه لا يصلي من الليل » فنحن دائما عندما نريد أن نوجه أحدا ما إلى شيء حميد نتحدث عن سلوكه السلبي الذي هو عليه، أو نصف حالته المشينة، ونحن نرجو ونروم تحقيق شيء إيجابي في سلوكه، ومن غرائب الأمور أن هذا التوجيه نذكره ونبينه في سياق التكوين أو التربية والتعليم، وهو سلوك لا يحقق أي نتيجة. لأن تركيزنا على السلوك السلبي وإعادة ذكره يجعل الآخر يتأفف من نصحنا وتوجيهنا، لأننا نضعه في موقع دفاع من خلال طريقة حديثنا الذي تحمل معنى يشبه الاتهام.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل : » بئس الرجل عبد الله لأنه لا يصلي من الليل » وإنما قال: « نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل » لقد اختار عليه السلام صيغة إيجابية للحديث عن السلوك السلبي، أي ركز عليه السلام على الحالة الإيجابية التي سيكون عليها عبد الله بن عمر في حالة تنفيذه للتوجيه، مما جعل التوجيه يحقق أهدافه، إلى درجة أن أخته حفصة رضي الله عنها قالت: « منذ قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما ترك أخي قيام الليل أبدا ».
وفي مثل ذلك استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض المدخلات الإيجابية الرائعة التي من شأنها أن تحقق أهدافها، وكذلك كان، منها رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: يا معاذ والله إني لأحبك، ثم أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ».
هنا خمسة مؤشرات هامة: الأول: « أخذ بيده » أي لمسة حنان وعطف ولين ورفق وقرب،
الثانية: « والله » التي تفيد القسم وإزالة أي لبس أو تشكيك، وما كان لمعاذ أن يشكك حتى ولو لم يقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو مشرع ومعلم يوجه رسالته له ولنا.
والثالثة: « أوصيك » وكلمة أوصيك تجنبنا الحكم على الموصي بالاستعلاء أو الاستبداد أو القسوة، لأن الوصية تفيد دائما معنى حب الخير للآخر وأنك تريد له أن يكون على صفة خيرية ما تفيده، والنصيحة غالبا ما تكون بلين ورفق، أي لم يقل له: افعل كذا وكذا بصيغة الأمر رغم أنه هو المشرع عليه الصلاة والسلام.
والرابعة:لام التأكيد في كلمة « لأحبك » التي تفيد صيغة التأكيد في حبه له.
والخامسة: » إني لأحبك » أي التعبير عن حب المخاطب، وقيمته عندك.
هل يمكن لإنسان أن لا يجد لديه شهية التلقي وحب التنفيذ والامتثال إذا ووجه بخطاب مثل هذا الخطاب الرائع المدهش الذي لا يترك للمخاطَب به أي تردد في التنفيذ والإذعان.
إن من أروع التوجيهات النبوية الشريفة لكل أبناء الأمة وبناتها قوله عليه الصلاة والسلام: » من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت… الحديث » وهو في صحيحي البخاري ومسلم.
ونلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « ليصمت » ولم يقل فليسكت » والفرق بين السكوت والصمت شاسع إذ السكوت هو القدرة على الإمساك عن الكلام متى شاء الفرد حقاً كان ذلك الكلام أم باطلا، أما الصمت فهو الإمساك عن الباطل دون الحق، بمعنى أن الدعوة موجهة إلى اجتناب ذكر السوء والسيء أثناء خطاب الناس والحديث معهم، والتركيز على ما هو إيجابي من شأنه أن يحفز على العمل ويقرب العلاقات ويوطنها.
روى البخاري في صحيحه حديثا يقول فيه: » إن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يُضحك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي قد جلده في الشراب، فَأُتي به يوما، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر من يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله » كان من الممكن أن ينحى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفس المنحى الذي نحاه الرجل الذي ركز على ما هو سلبي في شارب الخمر، ولكنه قال غير ذلك، لأن مقام النبوة لا يسمح بذلك، ولذلك ركز على شيء إيجابي في الرجل ألا وهو حبه لله ولرسوله، وهي شهادة كافية لجعل الرجل يتوب ويقلع عن شرب الخمر، وكذلك كان.
إن الرجل إذا ما تأفف من رفع زوجته لصوتها عاليا وقال لها: « إن أنكر الأصوات لصوت الحمير » فلن يحقق نتيجة ما أراد أبدا لأنه أهانها وشبهها بالحمار وهي سبة لا يمكن أن تقبل بها، وحتى إذا كفت عن رفع صوتها فإنما يكون ذلك نتيجة قمع وإرهاب وسوء أدب، وربما تصرفت تصرفات عفوية لا إدارية انتقاما لكرامتها، ولكن يمكن تحقيق نتيجة رائعة إذا قال لها: « كم تكونين رائعة عندما تتحدثين بصوت خفوت ». ونفس الشيء ينطبق على الطفل إذا ما أخطأ أو بدر منه سلوك مشين، فنقول له: « أنت أروع من أن تقع في هذا » أو أمثالك من الأذكياء لا يليق بهم مثل هذا السلوك »…
يحكي أحد الكتاب الأمريكيين وهو كين بلانشار في أحد كتبه القيمة في علم الإدارة، عن عجوز كانت مريضة وكانت تقتني دواءها باستمرار من أقرب صيدلية لمنزلها، وثاني أقرب صيدلية لها توجد على مسافة كيلومتر من موقع سكناها، وكان هذا الصيدلي لا يحسن التعامل معها وكانت دائما تشكو سوء معاملته وعدم تأدبه، وذات يوم زارها ابن أختها والذي يشتغل في شركة بيع الأدوية، فشكت له سوء معاملة الصيدلي وطلبت منه أن يكون فظا غليظا وقاسيا عليه حتى يتأدب معها مرة أخرى، وحتى تستمر في اقتناء دوائها منه لكونه الأقرب وإلا ستضطر إلى تحمل مشقة السيرلتقتني أدويتها من الصيدلية البعيدة خصوصا وأنها مسنة ولا تقوى على ذلك. وبعد مدة لاحظت أن الصيدلي أصبح يتعامل معها برقة ولطف ما كانت لتحضى بهما حتى في الأحلام. وقد فرحت جدا للنتيجة التي حققها ابن أختها. وبعد شهور زارها ابن أختها فقالت له: إن الصيدلي قد غير من معاملته لي فأخبرني كيف كان وجهه عندما انفجرت في وجهه قذفا وقدحا؟ فتعجب ابن أختها من كلامها وبادرها قائلا، ماذا تقولين يا خالتي، فأنا لم أفعل ما ذكرت وإنما قلت له: إن خالتي تحترمك وهي معجبة بك.
ونحن نقول ماذا كان سيكون رد فعل الصيدلي لو فعلا فعل ابن الأخت بالضبط ما اشتهته الخالة العجوز؟؟
يقول الله تعالى: (وقولوا للناس حسنى) وإن هذه الحسنى عندما تكون منهج حياة نستعملها مع جميع الناس نكون نحن الرابح الأكبر لما تضفيه على حياتنا من سكينة وهناء وعلاقات طيبة مع الآخرين.
1 Comment
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
شكرا للكاتب الكريم على هذه المواضيع الرائعة، فقط انتباه إلى قول الله عز وجل: (( وقولوا للناس حسنا)) هكذا بالألف الممدودة، وليس بالألف المقصورة، أي حسنا بالتنوين.
شكرا لوجدة سيتي وقرائها.