المبادرة الوطنية لتضييق هوامش الأرباح
رمضان مصباح الادريسي
أفران لإنضاج الأزمات:
ان المقاطعة « العميقة » ،التي لا يبدوا منها اليوم – وهي في هذا كجبل الجليد – غير الاعراض عن بعض المواد ،والمنشآت الخدماتية ،هي في الواقع حراك اجتماعي عفوي ،حسب ما يبدو،ضد جبروت الثروات ؛ الفاحشة الكم والسهولة معا.
لاحت نذر هذا الحراك منذ سنين ؛حينما تأكد أن الثروة في المغرب أصبحت تتجاوز خرائطها الطبيعية،المعروفة لها، لتلج خرائط السياسة ،ثم السلطة ؛لتطبق على المواطن ؛حتى من حيث كان يترجى السند؛وأقصد مؤسستي البرلمان والحكومة.
وقبلهما طبعا،أفران الأحزاب ؛حيث احترقت عظام العمل السياسي النزيه؛وغدا الرهان على الخيول الانتخابية المربحة هو أعز ما يطلب.
بهذا يكون قد ولى – على مستوى أغلب الأحزاب ذات الثقل – زمن الرهان على المناضل الحزبي النزيه،دون الأخذ بعين الاعتبار وضعه المالي.
» لا ترد صدور الخيل بالكتب » ؛كما حاجج عبد المومن بن علي الكومي.
وقد سبق أن تحدثت ،في هذا المنبر، عن الحاجة الى الذهاب في الانتخابات – زمنها – الى أبعد من اشتغالها الكمي؛للوقوف على معمل الديمقراطية الضخم وهو يشتغل حتى لا ينتج لنا ما لا نريده.
وحتى لا ينتج لنا « قِطع شطرنج سياسي » محسوبة على الديمقراطية فقط.
من هنا الأصل في كل عثراتنا التنموية ؛كما يشخصها اليوم الوضع الاقتصادي للشرائح الاجتماعية الفقيرة ،وللوافد الجديد عليها ؛وأقصد الطبقة الوسطى الآخذة في التقهقر الى حد التلاشي؛وهي الطبقة التي لا يقوم النظام الاقتصادي – قويا صامدا – إلا بها.
المشكل في الحلب أم في الحليب؟
ماذا بقي للمواطن وقد صيرته سلطة الثروات الناطحة للسحاب – حيثما ولى وجهه – حلقة ضعيفة جدا ؟
ضدا حتى على بَدَهِيات الديمقراطية،التي تعتبرالمواطن،من خلال تمثيلياته النزيهة، الحكم على الاقتصاد ومسارات الثروة؛ في اتجاه جعلهما قاطرة للتنمية الشاملة ،التي تلامس جميع شرائح المجتمع ، وليس البعض فقط.
ماذا بقي له غير تشديد الخناق على هذه الثروات ؛ما دام ذلك في مُكْنته، وما دامت هذه الثروات بنت جيبه ؛ حتى ولو كان في هذا التشديد/المقاطعة ضرر على تغذيته وصحته والدورة الاقتصادية عموما؟
وأعتقد أن الحديث عن منتوجات وشركات معينة ؛لا يعني أنها هي المقصودة فقط؛وأنها هي جماع مشكل الغلاء في المغرب؛بل القصد هو لفت الانتباه الى رموز مالية وطنية معينة،للتنبيه الى ضرورة الاسراع باعتماد نموذج تنموي يصحح جميع الاختلالات ،التي أفضت الى احتكار الثروة والسياسة؛ من طرف قلة ،أصبحت تحقق ارباحا فلكية؛خارج كل ما يجري به العمل في مجال كسب الثروة المشروع؛دوليا ووطنيا.
حتى أسواق البادية،وسندها العرف فقط، تحكمها قاعدة العرض والطلب؛وهي لا تنعقد بالإكراه على السعر،أو الغَبنِ فيه ؛وإلا لانفضت عُراها.
حينما تَحْتكِر مؤسسة اقتصادية ما الاستيراد بالثمن الدولي ،و البيع داخل الوطن بالثمن الذي تفرض ،وليس المؤسس على ثمن الشراء ،وهامش الربح المشروع؛فأي تجارة هذه ؛وهي من بنات الاستبداد؟
لا اكراه حتى في الدين ،فكيف يُكرِهنا البعض – غَبْنا – على أسعار لا سند منطقيا لها؟
لولا سلطة الثروة – بل تنمرها – لما لازمت المحروقات أسعارا وطنية لا تزكيها الأسعار الدولية.
ولولا هذه السلطة لما أرْهَق سعرُ الحليب ،حتى والأرض تفضح الشره ،بخيرات ربيع صارخ بالثراء؛ وفرة عشبية أرخصت جميع الأعلاف.
ولما حرمنا من فواكه البحر ،ونحن بحريون حد التخمة.
ولما ارتفعت أسعار الخضر واللحم في زمان جادَنا فيه الغيث ؛وقد هما كما يحب فلاحونا.
ولولا سلطة الثروة لما رُتب انهيار تعليمنا العمومي،لفائدة تعليم خاص ،ثمنه في جيوب الميسورين فقط.
وقل مثل هذا في جميع القطاعات التي تتضرر بالثروة الفاحشة ،والسهلة، أكثر من تضررها بالخصاص.
وعليه فلا مشكل مع الحليب في حد بياضه ؛بل مع أساليب الحلب التي با تت تتشكل وتتكرس خارج الضوابط القانونية والمالية؛وكأن لعنة ما أصابت السوق ،منذ « عفا الله عما سلف » الشهيرة.
حتى مجلس ضبط المنافسة التجارية ،لم يعد بين يديه ما يضبطه؛ان كان لا يزال قائما.
حتى لجان التقصي لم تُفتِنا في غلاء المحروقات « اللامفهوم ».
معادلة بمجاهيل عدة:
لم يقل أحد بحل مشاكل الاقتصاد ،في أي بلد،بتوقيف الدورة الاقتصادية فيه.
حينما يحصل هذا ،ويستفحل،فهو – في عالم الساسة – بمثابة استبدال النقاش السياسي بحروب الشوارع؛كما يقع في العديد من الأقطار العربية اليوم.
ولم يقل أحد بصواب جمع بعض أعضاء الحكومة بين سلطتهم الحكومية وسلطتهم المالية ؛لما في ذلك من تداخل بين جيب السروال وديوان الوزارة؛حتى لا نقول تشريع الوزير لثروته.
لكن الحاجة أم الاختراع ،كما هو معلوم؛فحينما يبلغ السيل الزبى؛ويتأكد بأكثر من سند أن الحكومة مشلولة ،الى درجة عدم تفعيل حتى قرارات جلالة الملك ،و في ما هو استراتيجي؛من قبيل الجهوية المتقدمة،وتبسيط المساطر الادارية،والبحث عن الثروة لإعادة توزيعها و و ..
لا مندوحة من صراخ المواطن المقهور ،مالا وسلطة: ليس علي فقط.
ذات زمن أرخص المرحوم الحسن الثاني الكرا ء بالثلث، كما شجع على اقتصاد ثمن الأضاحي؛كل هذا لما بدا له أن الوضع المالي للبلاد والمواطنين يتجه صوب الكارثة.
لعل المواطنين اليوم ،وهم يستمعون الى الادانات الملكية المتلاحقة للحكومة ومؤسسات الدولة ؛ينتظرون قرارات اقتصادية قوية ونافذة ،تصحح الاختلالات التنموية ،وتحقق العدالة الاجتماعية ،وتعيد توزيع الثروة ،وتضبط نموها حتى لا تتضخم خارج القوانين.
طبعا لا يمكن لأثرياء الحكومة أن ينشطوا من أجل مثل هذه القرارات .
ولا يمكن لهم حتى كبح جماح ألسنتهم،وهم يوزعون الاتهامات على المواطنين ،وصولا الى الانتقاص من وطنيتهم؛فقط لأنهم قرروا الامتناع عن الاستهلاك.
تبقى المعادلة صعبة جدا ،ما دام أثرياؤنا لا يحترمون حتى الحريات المكفولة دستوريا للأفراد،فبالأحرى أن يبادروا الى تضييق هوامش أرباحهم.
ويبقى الاعتذار فضيلة،نعم ،لكنه سيد الأدلة أيضا؛على أن المقاطعة – ومن المؤكد أنها ضارة اقتصاديا- مؤسسة على معاناة حقيقية،يعيشها المواطن يوميا؛ليس فقط بسبب غلاء الغذاء والدواء والماء والمحروقات.. بل لشعوره بتناقص مساحات الاطمئنان الى مستقبله ؛كلما استفحل الفساد واقتصاد الريع ؛وقد غدا غولا مؤسسيا معترفا بجبروته رسميا.
يمكن للمواطن أن يُحكِّم مواطنته فيصبر على الغلاء الاضطراري ،لكنه لا يمكن أن يعشي عينيه ويصم آذانه عن ثروات لا حدود لها ،لا تهمها من قريب ولا بعيد قراءة هذا الصبر قراءة منتجة للعدالة الاجتماعية.
وأنجع من الاعتذار المبادرة الوطنية لتضييق هوامش الأرباح ؛كمدخل لارساء نموذج تنموي جديد،لا ينتج الثنائية القاتلة:
الثراء الفاحش الثراء،قهرا وغلبة؛والفقر الأسود،المفتوح على كل الأدواء..
https://web.facebook.com/groups/orientculture/
Aucun commentaire