تسويق الثقافة العربية: من فائض الإنتاج المادي إلى فائض الإنتاج الرمزي
بلقاسم الجطاري
سنتحدث في هذا المقال عن المهام الموكلة إلى المؤسسات الثقافية في البلدان العربية لإثارة الانتباه إلى المسالك العديدة التي يجب أن تطرقها هذه المؤسسات كي تساعد غيرها من المؤسسات والهيئات ذات الصلة على تدبير الشأن الثقافي تدبيرا عقلانيا ورشيدا يمكن البلدان العربية من معالجة اختلالات التدبير الماضية، ويسمح بوضع مخططات مستقبلية تضمن للشعوب العربية حاجتهم من الأمن الثقافي، وتسويق ثقافتهم خارج البلدان العربية، وتمكينها من الدعم المادي والتشريعي والاعتباري الذي سيمكنها من منافسة ثقافات الشعوب المختلفة. وذلك بما يضمن للعرب عائدات مادية وثقافية وقيمية عديدة يمكن أن تساهم في تحريك عجلة التنمية.
تسافر الثقافة اليوم عبر القارات كما تسافر التكنولوجيا والمنتجات الاقتصادية بالذات . فكما تم إعفاء السلع والبضائع من الرسوم الجمركية الوطنية ، أو على الأقل التخفيف من مساطر ولوجها إلى الأسواق المحلية ، تم إعفاء المنتجات الثقافية أيضا بنفس المنطق التسويقي . وقد استفادت المنتجات الثقافية بدورها من حماية تشريعية دولية كما استفادت نظيرتها المادية . ومن الأكيد أن بصمة المصالح الإستراتيجية للدول والاقتصاديات العظمى واضحة في ذالك .لهذا ، ربما كان السؤال الأهم والذي ينبغي طرحه باستمرار في هذه النقطة ، بالنسبة للسياسات الثقافية بالبلدان العربية ، وهي في غمرة استقبالها لهذا الزخم الرمزي الكوني الذي يتدفق دون استئذان ويخترق الحدود القومية ،سؤالا ينصب على كيفية تدبير هذا الزخم، وبالتالي تكييفه مع الحاجيات الثقافية الوطنية للبلدان العربية بمنافع أكثر وخسائر أقل . ومن هنا بالذات إمكانية المساهمة في هذا الإنتاج الثقافي الذي يكتسي صبغة كونية ، عوض الاكتفاء باستهلاكه فقط ؟
هذا التدفق الضخم و اللامحدود من رؤوس الأموال المادية والرمزية ، نتج عنه بروز ظواهر ثقافية جديدة بالمغرب وغير مسبوقة إلى حد كبير ، وهي ما زالت في مراحلها وتشكلانها الجنينية . وربما يمكن أن نختزل هويتها الشمولية في ذلك النوع من الانتاجات الرمزية التي تدعى ب< الثقافة الرحالة > التي لا وطن لها ولا حدود لها .
لكن هذا التدفق الضخم ذاته أدى إلى ميلاد سياسات ثقافية وطنية جديدة ، حاولت التكيف مع هذه الظواهر الغير المسبوقة والعسيرة الضبط والمراقبة ، في ضوء استراتيجيات وأنظمة قانونية ومعاييرطقوسية وعرفية تختلف فلسفتها السياسية هنا وهناك ، حسب طبائع الدول والمجتمعات .
لقد عملت العولمة بأجهزتها التكنولوجية الحديثة ومؤسساتها السياسية والاقتصادية الدولية المنزوعة الجنسية ، على تسويق فكرة < المواطن الكوني> المنزوع الهوية القومية بالبلدان العربية ، فيما هو يشغل مكانه الخاص .وهذا ما يمكن أن نسميه ب < تزمين الأمكنة >، من خلال إخضاعها لمعيار زمني كوني ونمطي لا يتوقف عن السير خطيا إلى الأمام ، باسم حرية انتشار وتداول المعرفة على نطاق لا محدود ، وباسم صيانة التعدد الثقافي ذاته ، وبالتالي دفاعا عن الانفتاح اللانهائي على ثقافات الآخرين ، كيفما كانت أعراقها وجنسياتها وأصولها السوسيوثقافية .
البواعث والعائدات:
ينبغي التذكير، بداية، بالصلة البينية القوية القائمة بين مختلف أشكال التعبير الثقافي، إذ تسهل ملاحظة التعالق الموجود بين الواردات الاقتصادية الغربية ولواحقها من أشكال التعبير الثقافي (لغة، لباس، نظم العيش، أذواق فنية…)، وهو تعالق يجعل كل واحدة منهما (واردات اقتصادية، لواحق ثقافية) في خدمة الأخرى، ولهذا السبب، تحديدا، لا تتورع البلدان الغربية في تخصيص الميزانيات الكبرى لتشييد المراكز الثقافية في شتى بلدان المعمور، والتشجيع على استهلاك منتوجاتها الثقافية، ومن ثم الدفع باقتصاداتها المحلية إلى الأمام، من خلال اقتحام أسواق جديدة.
نقصد من هذا الكلام أن العناية بالمنتوج الثقافي الوطني للبلدان العربية والعمل على تسويقه خارج هذه البلدان عمليتان موضوعتان دائما في سياق مخططات ذات آفاق اقتصادية وقيمية. لذلك فإن العائدات التي يمكن أن تجنيها البلدان العربية من تسويق منتوجها الثقافي عديدة ستعود بالفضل على كل المشتغلين بحقل الإنتاج الثقافي العربي (الصناعة التقليدية بفروعها المتعددة: لباس، إكسسوارات، حلي، أطعمة ومستلحقاتها، أدوات…)، الموسيقى والفنون التقليدية..)، كما سترفع من جاذبية البلدان العربية السياحية، وستمكنها أيضا من ممارسة أشكال المثاقفة على قاعدة الندية لا على قاعدة الذوبان والتأثر والاستلاب.
المنحى: الدول العربية –دول الشمال
ونقصد به اتجاه العمل والتخطيط الثقافيين الكفيلين بتثبيت أقدام الثقافة العربية بدول الشمال، بهدف تحقيق غايات مركبة، أولها تمكين الجالية العربية المقيمة هناك من حاجتها الثقافية، وإشباع حاجتها الطبيعية إلى دعامة هوياتية تسمح لها بالاندماج ببلدان الإقامة، دون السقوط في حالة الانصهار التام، ودون الوقوع، أيضا، في حالة من التصلب والممانعة ورفض ثقافات هذه البلدان.
على هذا الأساس ينبغي القول إن تسويق الثقافة العربية في هذا الاتجاه ينبغي أن تتم من منظور مؤسسي ينطلق من خلفيات علمية وسوسيوثقافية ملائمة، أي ينبغي مواءمة القيم والتوجهات مع خصوصيات بلدان الإقامة، مع ما يعنيه ذلك من حرص على تكييف المنتوج الثقافي العربي (بمضامينه وحوامله) مع طبيعة الحياة الثقافية الخاصة بهذه البلدان.
أما ثاني الأهداف فهو تمكين المنتوج الثقافي العربي من الدعم الذي يسمح له بمنافسة المنتوجات الثقافية التي تزخر بها هذه البلدان، أولا لضمان تحقيق غايات مادية واقتصادية، وثانيا لتجنيب المهاجرين العرب (وبخاصة أبناء الجيلين الثاني والثالث والرابع) خطر السقوط في شراك التأويلات الدينية المتطرفة، أو تلك التي نشأت في ظل بنية ثقافية ودينية تختلف عن البنية العربية ذات الطبيعة الوسطية.
توطيد هذه العلاقات وتدعيمها يحتاجان إلى عمل مؤسسي مدروس بعناية يضع نصب عينه جعل الثقافة العربية الغنية وسيلة لتشبيك الصلات والعلاقات، ومطية لضمان العيش المشترك، وسبيلا لخلق التنمية بالمحيط الإقليمي، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بمكونات ثقافية عابرة للبلد، تنتمي إلى مجال ممتد شرقا وجنوبا.
ما تتيحه الثقافة في هذا المجال ليس فائضا عن الحاجات الفاعلة في شأن العلاقات الديبلوماسية، بل هي جزء لا يتجزء من هذه الحاجات. نعني هنا أن الرهان على الثقافة لتجويد العلاقات الديبلوماسية رهان معقول تبرره قوة العامل الروحي والنفسي الذي تنبني على أساسه ومن خلاله العديد من التعبيرات الثقافية.
ختاما، لا بأس من التأكيد على الحاجة الملحة إلى تدبير الثقافة العربية تدبيرا عقلانيا تحكمه الغايات والمقاصد الاستراتيجية في رحاب مؤسسات قوية ينأى العاملون تحت لوائها عن الخضوع للتجاذبات السياسية ذات الطابع الظرفي والطارئ، ولا بأس من التذكير، أيضا، بالطابع الاستعجالي لمسألة التسويق التي نثيرها عبر هذا المقال، لأن البلدان العربية تفقد مع انصرام الزمن فرصا حقيقية لتدارك البون الكبير الذي تتجاوزها به الدول الغربية في هذا المضمار، ولأن كل تباطؤ في الأمر سيؤدي بها إلى مزيد من الخسائر، مادية وقيمية.
Aucun commentaire