قراءة في رواية « غربة الياسمين »
(الاندماج البارد)
أحمد الجبلي
ليس كما في روايتها الأولى « في قلبي أنثى عبرية » الصادرة سنة 2012، فهذه المرة تجاوزت التونسية خولة حمدي جميع المؤاخذات والانتقادات التي تعرضت لها روايتها الأولى، والتي يشفع لها فيها تكوينها غير الأدبي، فلا هي خبيرة في اللغة وصناعاتها، ولا هي درست النحو وفروعه، ولا البلاغة وأساليبها، ولا هي حصلت على دبلوم دراسات عليا في فن الرواية بما فيها من مسالك الرواية وطرقها وزمان ومكان وحوار وعقدة وأفكار وحبكة تنسج ضمن سرد يحبك الأحداث في سياقات طبيعية تسير تدريجيا ضمن تفاعل الشخصيات في اتجاه إيجاد حل مقنع للعقدة.
فمهما قيل عن رواية « في قلبي أنثى عبرية » ومهما قيل عن التمايز بين العنوان والمضمون لكونه عنوانا لحدث واحد ضمن سياقات وأحداث أهم بكثير من قضية حب بين مسلم ويهودية، فإن خولة حمدي ذات التكوين العلمي والمتخصصة في أحد فروع الرياضيات التطبيقية قد وفقت إلى حد بعيد في اقتحام التعبير اللغوي والنجاح فيه وتحويل قصة واقعية لأناس حقيقيين من واقع معيش إلى شخصيات فاعلة على الورق لتجعل كل قارئ يعيش نفس الأحداث بأدق التفاصيل، في متعة منقطعة النظير، وفي سياقات اطرادية يكتنفها التشويق والترقب وإعمال الخيال في التنبئ بما سيحدث من خلال جزئيات تضعها الروائية رهن إشارة القارئ ليكون فاعلا لا سلبيا وحتى يكون شريكا مهما ضمن التخمين والوصول إلى الحلول الحقيقية والأنسب لعقد حيكت في مزيج من التفاعل بين ما هو ديني واجتماعي وسياسي وقيمي. ويكفي خولة حمدي فخرا أن روايتها الأولى، أو تجربتها الأولى إن صح التعبير، قد لاقت إقبالا كبيرا من طرف القارئ العربي وقد طبع منها على حد ما وصل إلى علمي اثني عشرة طبعة، كما يكفيها فخرا أنها دشنت نمطا جديدا في الكتابة يحيي في الناس طريقة جديدة في الحديث عن الحب لكنه ليس كالحب الذي ألفناه في الأفلام المصرية والمكسيكية وقصص عبير اوروايات نجيب محفوظ وأمثاله، بل حب في إطار من القيم والضوابط دون استهتار أو ميوعة أو مروق إلى العبث الذي عادة ما يؤدي إلى تفشي الفاحشة وتدمير الأسر والمجتمع.
فغربة الياسمين الصادرة سنة 2015 تمثل مرحلة النضج الكامل لدى خولة حمدي في اقتحامها لعالم الرواية، حيث كتبت بأسلوب شيق رصين وسرد متسق في سياق أحداث اطرادية تنمو شيئا فشيئا وكل مرة يكتمل جزء من الصورة العامة وتنكشف بعض الأسرار وتحل بعض العقد في اتجاه لملمة الأجزاء لتعطينا صورة كاملة واضحة المعالم لتجيب عن كل صغيرة وكبيرة وتكشف عن أي مقطع أو مشهد حيث لا عبثية في السرد ولا حشو في الحكي ولا زيادة ولا غلو في الوقوف عند كل حدث أو شخصية.
لقد دلت غربة الياسمين حقا على أن الرواية الأولى كانت تجربة وإن كانت تستند إلى أحداث حقيقية، حيث تفادت خولة ما اعترى روايتها الأولى، رغم ما لقيته من نجاح وانتشار، من ركاكة خفيفة في الأسلوب وتكرار في بعض الكلمات والقفز أحيانا على الأحداث وإن كان قفزا طفيفا قد لا يلتفت إليه القارئ وهو مشدود إلى الأحداث وتراتبيتها.
فغربة الياسمين تشترك مع سابقتها في اعتماد خولة حمدي في سردها للأحداث والوقائع على النمط السينمائي الذي يعزل في البداية كل جزء أو مشهد على حدة وكأنها تعمل على نسج قميص بأكمام طويلة، فتعمل على نسج الكُمّ الأيمن ثم تنتقل إلى الكم الأيسر ثم تجعل الكُمَّيْنِ يلتقيان في العنق لتنزل بعملية النسج في اطراد متناسق بألوان زاهية إلى أن يصل إلى نهاية القميص في حلة جميلة لا شية فيها ولا عيب، رغم أن القميص في غربة الياسمين ترك مبتورا غير تام عن قصد لسبب بسيط هو أن الحرب على الحجاب والإسلام وغربة المسلمين في أوربا ومحاولات اندماجهم المستحيل لا تنتهي.
فالكُمّ الأول تمثله رنيم شاكر المحامية المصرية التي تتبرع بكليتها لرجل فرنسي تحبه اسمه ميشال، فميشال يريد رنيم كصديقة أو خليلة، ولكن رنيم، رغم أنها بعيدة كل البعد عن الإسلام، فهي امرأة لا تؤمن بما يؤمن به صديقها الفرنسي، فهي لا تعرف إلا رابطا واحدا يجمع بين الجنسين وهو الزواج. والزواج كان هو مفترق الطرق في هذه العلاقة حيث يتجه كل واحد لحال سبيله، لكن قبل ذلك يتوسط ميشال لزنيم كعربون اعتراف بتضحيتها الكبيرة (إنقاذه من الموت والتبرع بأصح كلية لديها) لتشتغل في مكتب أحد المحامين بباريس، مما يجعل رنيم تضطر إلى الرحيل والبحث عن سكن أو شقة في عمارة بمدينة الأنوار بمواصفات برجوازية لكونها تعشق « البريستيج » والتسوق والأبهة. ولكن نظرا لإسرافها وإنفاقها للمال بدون أدنى حساب، تضطر لطلب الدعم من أبيها المصري الثري، إلا أن هذا الأخير يجد أعذارا منعته من تسريع المساعدة، مما جعلها تفكر معتمدة على نفسها ولم يكن هناك سوى فكرة واحدة تجول بعقلها هي تأجير إحدى الغرف من شقتها الواسعة.
إلى هنا تنتهي الكاتبة من نسج الكُمّ الأول أي تنهي حديثها التقديمي عن رنيم لتتحول إلى الكُمّ الثاني المتعلق بياسمين الشابة التونسية المتحجبة التي تأتي لباريس لتمكث عند والدها كمال عبد القادر البروفسور الشهير وزوجته الثانية إيميل وأخويها الصغيرين سارة وريان وذلك بحثا عن شركة لتأطير رسالتها لنيل الدكتوراه في علم الاجتماع.
وأثناء رحلتها بالمترو من ليون إلى باريس تتعرف على شخص مجهول (الدكتور عمر المغربي) الذي يشتغل في شركة للكيمياء ويعمل على مشروع مهم للغاية حول الطاقة النظيفة، وكانت علاقتهما تقتصر فقط على مناقشة الأفكار التي تتضمنها الكتب التي تقرأها ياسمين في المترو.
ثم تبدأ الكاتبة في نسج صيرورة الأحداث إلى أن تلتقي زنيم بياسمين حيث ستكون هذه الأخيرة هي الحل للمشكلة المالية التي تعاني منها رنيم، أي هي من يستأجر الغرفة الفارغة في شقة رنيم لتبدأ علاقة حميمية وصداقة متينة رغم اختلاف الأفكار والقناعات، أي جمع القدر بين فتاة مصرية منفتحة عاشقة لملذات الحياة لا تعير للدين وزنا ولا للعبادات وقراءة القرآن ولا علم لها بأن المسلمة لا تستطيع أن تتزوج غير المسلم حتى ولو كان مسيحيا أو يهوديا ولكن لابد من توفر شرط الإسلام حتى يصح الزواج، بتونسية متحجبة مثقفة ثقافة إسلامية عالية نتيجة تربية أمها بعيدا عن أبيها المستغرب هنا في فرنسا الذي وصل به الاستغراب إلى حدود تغيير اسمه من كمال عبد القادر إلى سامي كلود.
ثم إن ياسمين بعد محاولات كثيرة ومقابلات مع العديد من الشركات يتم رفض تأطير أطروحتها في الدكتوراه رغم سيرتها العلمية المتميزة بسبب حجابها الذي سيعرضها للرفض تارة وللاستهزاء تارة أخرى، ولولا تدخل أبيها البروفسور الشهير والمحاضر المعروف في جامعات فرنسا كوسيط لدى إحدى الشركات بباريس لما استطاعت أن تجد من يحتضن مشروعها العلمي « دكتوراه في علم الاجتماع ».
هكذا إذن تلتقي ياسمين برنيم ثم تلتقي بعائلة صديقة والدتها زهور المقيمة في باريس رفقة زوجها عبد الحميد وأبنائها الثلاثة منهم على الخصوص ميساء الطالبة الجامعية وهيثم المهندس في إحدى شركات باريس، هذا الأخير الذي بتنسيق فرنسي تونسي بين زهور وفاطمة أم ياسمين تحاك له مؤامرة تزويجه بياسمين رغم أن في قلبه لورا الشابة الفرنسية خريجة معهد التجارة التي تتحول إلى الإسلام فقط من أجل الارتباط به كشاب وسيم رياضي مفتول العضلات وذو أخلاق عالية.
سيندلع انفجار عنيف في شركة الكيميائيات يموت على إثره أزيد من ثمانية أشخاص، والذي سيسفر كذلك عن إصابة الدكتور عمر المغربي بكسور بليغة في ضلوعه وحروق أصابت بعض الأجزاء من جسده من الدرجة الثالثة والرابعة. وليت الأمر توقف عند هذه الكسور والجروح والحروق الخطيرة، لأن هناك ما هو أخطر وأفدح بكثير حيث سيتم اعتبار هذا الانفجار المخبري عملا إرهابيا وأن عمر هو المتهم الرئيسي فيه، أي أن الانفجار عمل إرهابي استهدف من خلاله عمر المغربي إتلاف تجربة علمية عالية القيمة (الاندماج البارد). جاءت تهمة العربي المسلم منسجمة مع سياق الأحداث الإرهابية التي أصبحت تعرفها فرنسا من جراء تدخلها في شؤون دول أخرى.
هكذا يلتقي عمر بزنيم لأنها ستكون محاميته الوحيدة التي ستدافع عنه وهي مؤمنة ببراءته، ويكون عمر هو نقطة وصل في الأحداث بين زنيم وياسمين. رنيم التي تعجب بشخصيته القوية وثباته والتزامه وياسمين التي سبق لها أن حكت لرنيم عن ذاك الشاب المجهول الذي كانت تلتقيه في المترو ويتبادلان الحوار حول الكتب التي تقرأها دون أن يعرف أي منهما أي شيء شخصي عن الآخر بما في ذلك الاسم.
وأما عن الشركة التي قبلت أن تكون مكان تهيئ ياسمين لأطروحتها حول الانتحار، فسيكون لها تأثير سلبي كبير على حياة ياسمين من خلال باتريك الرجل الفرنسي العنصري الذي يكن عداء كبيرا للإسلام والمسلمين من جراء تجربة أخته إيلين مع زوجها المسلم المتطرف والدكتاتوري الذي جعل أخته تعيش الجحيم المحقق رفقة ابنيها سارة وريان. وستعيش ياسمين معاناة حقيقية ناتجة عن حقد وكره باتريك لها لكونها مسلمة، لتكتشف في الأخير أن باتريك هو شقيق إيلين زوجة أبيها والذي دخل في صراع مرير مع سامي كلود الذي طرده من بيته وحرم عليه زيارة شقيقته.
هذه مجمل الأحداث التي تدور حولها الرواية والتي من خلالها كشفت الكاتبة عن العديد من الحقائق حول العنصرية ومعاناة المسلمين في فرنسا وعن النفاق الفرنسي الانتهازي وعن اندماج المسلمين في المجتمع الفرنسي حيث يمثل كمال عبد القادر قمة الاندماج لكنه اندماج لم يتحقق إلا من خلال التخلي عن الهوية والدين والاسم والعائلة العربية والزواج من فرنسية والحصول على الجنسية الفرنسية حتى اللون الذي يميل إلى السمرة العربية التونسية يجب اعتباره من ألوان جنوب إيطاليا حتى تختفي أي لمحة عربية توشي ببقاء شيء له علاقة بالأصل أو الفصل.
فعائلة زهور، وبالأخص أبناؤها الذين ولدوا في فرنسا وتربوا فيها ويتحدثون الفرنسية بطلاقة، لم يستطيعوا أن يندمجوا رغم محاولاتهم العديدة لصعوبة ذلك بل واستحالته ما دام الإنسان العربي المسلم يتمسك بتعاليم دينه وتقاليده وقيمه.
وأما عن رنيم فرغم أن الظاهر يوحي باندماجها، فهي لم تصل إلى مستوى اندماج كمال عبد القادر الكلي (سامي كلود)، ففي الوقت الذي كانت تسير فيه نحو الغوص في المجتمع الفرنسي إلى درجة أنها قبلت بدون تفكير بأن تتزوج بميشال الفرنسي، وبفضل بذور القيم العربية الأصيلة المغروسة فيها والتي بدأت تنمو شيئا فشيئا بفضل تأثير ياسمين وعمر، استعصمت ووطنت نفسها وحددت هويتها بشكل واضح وعزمت بقوة على التغيير مما جعلها ترفض أفضل عرض فرنسي مغري ما كانت لترفضه لو عرض عليها في مرحلة سابقة يوم كانت كالغراب تائهة في خضم تجاذب الانتماء إلى مجتمعين مختلفين.
ولا أعتقد أنه من الصدف أن تتحدث الكاتبة عن أعظم مشروع عالمي اسمه « الاندماج البارد » والذي انفجر ولم يتحقق فأعتقد أنه لا يخرج عن التعبير عن الاندماج المستحيل بين مجتمعين مختلفين اختلافا متباينا إلى درجة البرود (الاندماج البارد).
إن رواية غربة الياسمين تلتقي مع رواية « في قلبي أنثى عبرية » في الكم الهائل من المعلومات والذي وظف في نسق منضبط يخضع لما تمليه الأحداث في اطرادية رائعة ومتناسقة، حيث تناولت الكاتبة حديثا عن أدق تفاصيل عملية المحاماة وكأنها محامية حقيقية ومطلعة على أسرار هذه المهنة الخطيرة، فمن إجراءات تسلم القضية، إلى البحث والتقصي وتكليف خبراء في التنقيب عن المعلومات، وكيفية إدارة الجلسات في المحكمة، إلى طبيعة الأسئلة التي يطرحها المحامي بذكاء ودهاء لاستخراج المعلومات من خلال ربط الأحداث ببعضها لإفراز استنتاجات منطقية تحاصر الوكيل العام كما تربك جميع الخصوم الذين يحبكون المسرحيات من أجل تلبيس عباءة الإرهاب لرجل ذنبه أنه عربي يأبى أن يندمج في مجتمعهم المائع المخمور الذي يهرع إلى الانتحار عندما تضيق به السبل أو تعبس في وجهه الحياة، وهو رجل ذو كفاءة علمية عالية يعمل ليل نهار بكل تفان والتزام من أجل تحقيق سبق علمي من شأنه أن يعمل على إسعاد الإنسانية عامة والمجتمع الفرنسي خاصة. هذا السبق العلمي غاض الإرهابيين الحقيقيين من أبناء فرنسا فتربصوا بصاحبه فقط لأنهم لا يتحملون أن يكون السبق من نصيب عربي مسلم ولذلك استحق أن تُحْبَكَ في شخصه مؤامرة من أعلى مستوى أدت إلى إزهاق أرواح بريئة.
كما تحدثت عن شوارع باريس وأهم مآثرها ووصفت بدقة متناهية بعض المعالم كالحدائق والبنايات والجامعات ونظام النقل وصعوبة المرور في أوقات معينة مما يوحي أن الكاتبة فعلا وحقيقة عاشت في هذه المدن وهذه الأجواء وخبرت العديد من الضغوطات الاجتماعية والإكراهات الإدارية لكونها مسلمة متحجبة نالت شواهدها العليا في هذه البلاد.
كما لا يجد القارئ صعوبة في تبرير حديثها الدقيق والعلمي عن تلك المكونات والمواد العلمية التي تسببت في الانفجار لكونها خبرت المختبرات العلمية والبحوث الجزيئية في جامعات التكنولوجيا والهندسة الصناعية.
فأثناء قراءة رواية « غربة الياسمين » يشعر القارئ حقيقة كأنه أمام فيلم محبوك الصنعة، أحداثه ليست عبثية بقدر ما هي مرتبطة بنسق طبيعي اطرادي منسجم، غابت فيه الطفرة والقفز على الأحداث لاستعجال الوصول إلى النهايات، فالأحداث تأخذ وقتها الذي يكفيها لتكون أكثر إقناعا لتحقيق نتيجة كان القارئ يتوقع الوصول إليها، فلا يخيب ظنه أو يتفاجأ بالوصول إلى نتائج عكسية كما يفعل العديد من المخرجين من خلال عشقهم لمعاكسة الجمهور وبذل جهد للوصول إلى نهايات غير متوقعة مما يفسد على القارئ أو المشاهد متعة الربط العلمي للأحداث وتحقيق استنتاجات ومخرجات مضمونة عندما تبنى على فرضيات ومدخلات صحيحة.
يقينا لو تم تحويل رواية « غربة الياسمين » إلى سيناريو دراما عربية فرنسية فمن المؤكد أنه سيكون فيلما عالميا من شأنه أن يحقق جوائز عالمية أقلها السعفة الذهبية في مهرجان كان الفرنسي.
1 Comment
fi saraha riwaya khatiiiiira kol l ihtiram lhad sayda otariçat lkitaba woooow bravo ana fakhorabiha hiya machi adabiya walakin 9adrat tktab otbda3 bi had l oslob dc chi haja wooow