خطبة الجمعة بين الدين والعلم – الحلقة الثانية- – لا تَصٌغْ خطابا في المريخ لتوجهه لأناس يعيشون في الأرض-
أحمد الجبلي
في معرض الحديث عن الخطبة، يمكن تقسيم المعرفة التي يحتاج إليها الخطيب إلى ثلاثة أقسام: قسم يتعلق بمعرفة المضمون، وقسم يتعلق بمعرفة الجمهور، وقسم ثالث يتعلق بمعرفة آليات وميكانيزمات مساعِدة للخطيب كي يكون خطيبا مفوها متمرسا يعرف كيف يلقي خطبة وفق متطلبات علمية مدروسة حتى يكون أكثر إقناعا وتأثيرا.
وفي هذه الحلقة سنتحدث عن معرفة الجمهور لكون هذه المعرفة مفضية إلى تحديد الأساليب التي من شأنها أن تؤدي إلى عملية دمج الجمهور في الخطبة.
إن الخطيب في حاجة إلى الوقت الكافي ليفكر في جمهوره، وذلك من نواحي مهمة، مثلا، من هم أفراد الجمهور؟ أعرافهم السائدة؟ ماذا يريدون؟ ما مدى ارتباطهم بالدين؟ وماذا يعرفون منه وماذا يجهلون؟ وما مدى صحة الشعائر التي يمارسونها؟ ما الطابع الاجتماعي والثقافي الغالب على حيهم؟ كيف كانت نظرتهم للخطباء السابقين بهذا المسجد، وللخطب السابقة؟ وماذا ينتظرون منها؟ ماذا يعرفون عن موقف الدين من الأحداث التي تقع في المجتمع محليا ودوليا؟ ماذا يعرفون عن موقف الدين من القضايا الشائكة المطروحة في الساحة كالإجهاض، والردة، وحرية المعتقد، والدعوة إلى المناصفة في الإرث، والجهاد، وإمامة المرأة، والحرية، والمساواة، والإحصاءات والبحوث الميدانية التي تمس التدين في المغرب…؟ ما هي التصورات الخاطئة المتداولة بينهم والتي تخص الفهم الأعرج للدين؟ وما هي المواضيع الملحة التي يجب أن يعرفها الناس، بالضرورة، والتي تحاول بعض الكتابات ومنها الإعلام المحلي والعالمي تشويهها وإعطاء صورة معاكسة لها، منها تضليل العامة بأن الإسلام انتشر بحد السيف، وأنه دين إرهاب، وأنه ليس دين رحمة وإشاعة الخير، وأنه يتربص بالكفار ليقتلهم، والمخالفين ليقتص منهم، وأنه عنصري فئوي منغلق على ذاته، وأن الحجاب قمع لحرية المرأة وسيطرة عليها، وأن تعدد الزوجات دال على شهوانية الدين ورجاله، وهو إذلال للمرأة وكبح لحريتها في أن تفعل المثل ليكون لها أخلاء وأزواج متعددون؟ ماذا يعرفون عن كتاب ربهم؟ وماذا يعرفون عن سيرة وسنة نبيهم؟ وماذا يعرفون عن صحابته الكرام؟ وماذا يعرفون عن علماء وأعلام الإسلام، منهم على الخصوص علماء وأعلام بلدهم؟..
إن الخطيب إذا لم يجب عن مثل هذه الأسئلة، فلن يتمكن من تكوين رابط مع الجمهور. لأن الخطبة بمفهوم من المفاهيم، هي رحلة عاطفية وذهنية وفكرية وتربوية يقوم بها الخطيب رفقة جمهوره. فكيف ينجح في قيادة أناس من لا يعرفهم ولا يعرف عنهم أي شيء.
لازلت أذكر عندما تعذر على الخطيب الرسمي أن يلقي خطبته بمسجد سيدي يحى المركز. فبعث المجلس العلمي المحلي شابا لا يعرف أدنى شيء عن هذه الساكنة ولا عن معتقداتهم العرفية ولا مدى تشبثهم بالضريح المجاور… فنزل الشاب بغضب على التمسح بالأضرحة والذبح عليها، وذكر « الولي الصالح » الذي يشكل رمزا تاريخيا في المنطقة بما لم يرض البعض. فقام أحد السكان من بين الجمهور وأثناء خطبة الجمعة، وهو يصيح بغضب وبأعلى صوته قائلا: « اتق الله يا إمام ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ». فتحول المسجد إلى سوق من اللغو والنقاش. وبعد انتهاء الخطبة تشكلت قرب المسجد تجمعات صغيرة في كل مكان تحاول طرح المسألة من وجهات نظر مختلفة. وعلى أي حال لقد حمدنا الله تعالى أن الإمام لم يتعرض لأي سوء، كما أن هذه الخطبة كانت أول وآخر خطبة له بهذا المكان ومع هؤلاء الناس.
فإذا كانت الحكمة هي وضع الشيء في مكانه المناسب، فإن من الحكمة معرفة أشياء ذات أهمية عن الجمهور. ولو فقه هذا الخطيب الشاب خصائص جمهوره وارتباطهم التاريخي ب « الولي الصالح » لصاغ خطبته، آخذا بعين الاعتبار هذه الحساسية، وبالتالي كان سيجعل خطابه في سياق آخر من شأنه أن يحقق نفس المقصد الذي أراده، وهو أن يجعل حديثه عن الله تعالى الخالق الرازق المانح والمانع والمحيي والمميت والذي بيده كل شيء، وربما حينها كان له أن يعبر بأن أولياء الله الأموات أمرهم عند ربهم، وهم من يحتاجون إلينا نحن الأحياء فيدعو لهم بأن يتقبل الله أعمالهم الصالحة وأن يتجاوز عنهم. فحينها كانت ستكون الخطبة مقبولة ولن يحتاج أي أحد من الجمهور ليلغو، كما أننا نحن كذلك لن نحتاج إلى ذكر مقولة الإمام الزرقاني « جاز للمأمومين أن يلغو إذا لغا الإمام ».
إن الخطبة التي تلقى في حي شعبي فقير ترتفع فيه نسبة الأمية ويعاني أهله من التهميش وقلة ذات اليد، لا أعتقد أن خطبة حول إخراج الزكاة ستلقى ترحيبا لديهم. اللهم إذا كانت من باب تعريف القوم على دينهم فيكون التعريف هو السبب الدافع إلى نسج الخطبة من البداية، وهذا سيفرض صياغتها في سياق منسجم وبطريقة مقبولة، أو أن تضرب لهم أمثلة من حياة البذخ والرفاهية لن تزيدهم إلا حنقا وغضبا ونقمة على الوضع الذي يعيشونه. ومعنى هذا أن الخطيب مطالب بأن لا يلقي الخطبة بلغته بل عليه أن يلقيها بلغة جمهوره. ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) فالأنبياء ـ عليهم السلام ـ يُرسَلون بلسان أقوامهم ليبينوا لهم، ويقيموا عليهم الحجة، بأوضح عبارة، وأجمل أسلوب، ولأن معرفة لغة القوم هي القاسم المشترك الذي يضفي الانسجام والتفاعل بين النبي وقومه، فكلما خوطب جمهور بلغة أخرى غريبة عنه فلا نحسب أن يكون تمة تحقيق لمرمى أو هدف، بل وسيكون الأمر كأن الخطيب يصوغ خطابا في المريخ ليقوم بتوجيهه لأناس يعيشون في الأرض.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يختار رسله إلى الملوك والأمراء وفق معايير مضبوطة أهمها معرفة الرسول بالقوم، فبعث دحية الكلبي إلى هرقل عظيم الروم، كما يقول ابن حجر لأنه كان عليما بهم. وأرسل عبد الله بن حذافة إلى كسرى عظيم الفرس لأنه كان على دراية ومعرفة بهم وبلغتهم. وأرسل حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس بمصر لأنه كان، كما يقول ابن حجر: » كان له علم بالنصرانية ومقدرة على المحاورة ».
وعندما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم هرقل خاطبه ب »عظيم الروم » لمعرفته بمكانته وعظمته في قومه، و افتتح رسالته عليه السلام بقوله تعالى ( يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا…) فلو لم يكن يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الروم نصارى وأنهم أهل كتاب فما كان ليختار خطابا مناسبا ومؤثرا، ولو افترضنا أن أحدا ما بعث بنفس هذا الخطاب لأناس وثنيين يعبدون الأصنام فكان سيكون موقفه موقف الأحمق الذي يخاطب الناس دون معرفتهم ومعرفة معتقدهم وأعرافهم. وبالتالي لا نريد لخطبائنا أن يكونوا حمقى يلقون خطابات في واد وجمهورهم في واد آخر.
إن تحديد الخطيب لحاجيات جمهوره في إطار رؤية شاملة تأخذ بعين الاعتبار معرفة الواقع والمتحكمين فيه والأحداث المتسارعة التي تتجاذب الإنسان فتقوم بتأطيره ونسجه على شاكلة تغريبية بعيدة عما يريده الدين، لهي أحد أهم العوامل التي تقوده ليكون، كما يقول شيخنا وأستاذنا العلامة الدكتور مصطفى بن حمزة: « الرائد الصادق والناقد البصير والمفكر الحصيف الذي يعي جيدا وضع أمته واحتياجاتها المستقبلية، وما توجد فيه من ظرف دولي ومن موقع خاص ضمن جدلية التدافع الحضاري، فيؤسس على ضوء ذلك كله رؤيته لنموذج الخطبة الصالحة ».
Aucun commentaire