التاريخ تقدمي: تأملات في راهن التاريخ
بقلم د. محمد بالدوان
في استقراء عام للتحولات التاريخية، يبدو لك التاريخ رجلا عملاقا خارقا قرر توظيف سلطته وقوته للمضي إلى الأمام محطما كل الحواجز التي تعيق مساره أو تجعله يتقهقر إلى الوراء، وقد يغض الطرف عن بعض العوائق إذا كانت تؤدي وظيفة حيوية لا تؤثر في مساره التقدمي أو إذا كان بقاؤها يؤثر إيجابا في منحناه التصاعدي.
قد يتساءل المتابع عن علة إدراج مثل هذا الاستهلال، وإني متفاعل معه أيضا بالتساؤل رجاء في الاقتراب من إجابات تضاهي الحقيقة: هل جاء الربيع الديمقراطي للعالمين ليرجع بالعالم إلى الوراء؟ ألا يمكن اعتباره لبنة أساس لتشييد عالم متعدد الاقطاب؟ هل بمقدور الجمهوري « دونالد ترمب » طمس آثار الربيع والعودة بالعلاقات الدولية إلى سطوة نظام القطب الواحد؟
اعترفت الاستراتيجية الامنية للولايات المتحدة(2010-2014) في عهد « باراك أوباما » بعالم متعدد الأقطاب، فانتهجت سياسة تخفف من التدخل المباشر والميداني في الازمات الدولية، وبعد انتخاب دونالد ترمب اعتقد الكثير من المتابعين، اعتمادا على منهجيته الفكرية وتحركاته الميدانية المتمثلة في تكثيف الوجود العسكري في ساحات النزاعات الاقليمية، وخلق شروط الانقسامات الوطنية، بأنه سيعيد العلاقات الدولية إلى قواعد النظام العالمي الجديد.
غير أن ثمة الكثير من المؤشرات السياسية والعسكرية التي تدل على عجز إدارة الجمهوريين في التحكم بمصير الملفات الدولية الشائكة، ومن أبرزها:
– وَجدتْ الولايات المتحدة اليوم كيانها على مرمى حجر من الصواريخ الباليستية الكورية الشمالية، كما باتت قواعدها العسكرية مهددة بهجمات ايرانية، وينتصب رئيسها للمواجهة بالكلام مستكبرا ومتوعدا عبر حسابه في تويتر !!
– باتت إسرائيل أيضا على مرمى حجر من صواريخ إيران، وسيقرأ الفرس بدهائهم المعهود متغيرات موازين القوى الدولية ليعلنوا عن نية تطوير السلاح النووي, وبالرغم من ذلك لم تساير بريطانيا الحليف التقليدي لامريكا صيحات ترمب الداعية إلى التراجع عن اتفاق لوزان بين ايران ومجموعة الستة المبرم في أبريل 2015 بخصوص البرنامج النووي الإيراني و الغاء جميع العقوبات على إيران. فلم يجد « ريكس تلرسون » أمامه، في تصريح له بتاريخ 15 اكتوبر 2017، سوى خيار الحرص على تطبيق الاتفاق وتكثيف مراقبة النشاط النووي الايراني.
– وصلت تركيا حد قلب الطاولة كليا على أمريكا وسحب الاعتراف تعترف بسفيرها حساب الازمة الدبلوماسية الاخيرة، فهي لن تمرر بسهولة مسألة تسليح أمريكا للاكراد بهدف اضعاف أحفاد العثمانيين.
– توجهت المملكة العربية السعودية نحو روسيا بعد ادراكها عجز ترمب في إخضاع قطر وعدم جدية اتفاقاته السياسية.
– عزز المغرب شراكته مع روسيا بعيدا عن الاتحاد الاوربي وأطلق استثمارات ضخمة في افريقيا بعيدا عن إذن فرنسا الاستعمارية.
– تشكل تحالف روسي تركي ايراني بعيدا عن أمريكا لبحث سبل حل الازمة في اليمن وسوريا وليبيا.
– هرع الفلسطينيون مستبقين التطورات ومغتنمين الارتباك الأمريكي لابرام مصالحة وطنية تململ الواقع وترقى بالقضية إلى أفق تأسيس الدولة الفلسطينية.
– فشل الخيارات الانفصالية(استفتاء الاكراد والكطالان) الهادفة إلى معاقبة المتمردين على سياسات دونالد ترمب.
إن « دونالد ترمب »، كما العديد من الدغمائيين الانجيليين والصهاينة والاسلاميين واليساريين، لم يقتنعوا بعد بأن عالم اليوم يأبى التفاعل بميكانيزم القطب الواحد، لذلك سيظل معظمهم يتصرف كصبية حديثي العهد باكتشاف الأنا، ليس بمقدورهم إدراك ما يجري من حولهم. لذلك يبدو لك رئيس الولايات المتحدة اليوم مثيرا للشفقة وهو يهرول بلا جدوى كالاحمق، ويتحدث كما لو كانت تصريحاته أوامر، ليرجع بالعلاقات الدولية إلى عهد ولادة النظام العالمي الجديد.
Aucun commentaire