حكايا استاذ متقاعد : من ذكرى والدي
لا أتذكر صورة ولو تقريبية عن وجه والدي- رحمه الله- لكنني اتذكر بالمقابل انه كان صاحب قامة متميزة، حيث انفرد عن بقية الرجال الذين عرفتهم ببنية قوية ترجمها في اعمال الفلاحة والمشاق المعهودة في البادية.
ولعل اقوى دليل على صلابة والدي هو ذلك الكهف الذي انجزه بمفرده في مرتفع من ارضنا بوادي زا.
لقد اكتفى بفأس متاكلة ليقوم بهذا العمل قبيل وفاته بوقت قليل ، ولا زالت بصمات الفأس ماثلة للعيان في جدار الكهف وكأنها حديثة العهد!
اتخذ الكهف مكانا لتخزين اعلاف الحيوان، لكنه ما لبث ان تحول الى اقامة للاهالي عندما كانوا يقومون باصلاح اعطاب السد او جني محصول الزيتون وغيره، حيث كان يتسع لخمسة عشر نزيلا!
اما الدليل الثاني على قوة والدي البدنية، فقد لمسته يوم كنا نتوجه الى وادي زا بعد جمع المحاصيل لقضاء ما تبقى من الصيف والخريف وسط الجنان التي كنا نمتلكها.
كان علينا ان نحمل متاعنا على ظهور الدواب لنقطع ازيد من عشرين كم التي تفصلنا عن وجهتنا.
كان من ضمن متاع رحلتنا صندوق خشبي متوسط الحجم لم تنته صلاحيته الا مؤخرا بطلب مني، حيث كنت التمس من الأسرة أن تصون هذا الموروث الذي قام مقام الأريكة لي ذات زمان، فأحببت أن أبحث فيه عن بصمات الوالد، لكن هذا المتاع ضاع أخيرا عندما تخلص أهل البادية من جل ما يمت الى القديم بصلة!
كان والدي يطلب من امي أن تضع كل المتاع الخفيف من قبيل اوعية الدقيق الجلدية وما تبقى من السكر ولوازمه، ثم المهراس والاواني في الصندوق الى أن يمتلىء عن اخره، ثم يحكم والدي تثبيته على كاهله قبل ان يجلسني فوق ،، الهودج،، بعدما يطمئن على سلامتي من خلال قطع قماش يلفها على أطرافي السفلى، ولا يتوقف حتى تصل القافلة الى الوجهة المعتادة!
لم يسبق لوالدي أن توقف للاستراحة او صدر عنه ما يشي بتعبه، بل كان يمضي، منتصب القامة، ولا يكل من ممازحتي حتى لا اتضايق !
لقد تكرر هذا المشهد مرتين على الاقل، ولا استطيع تحديد سني يومئذ!
بمجرد أن نضرب خيمتنا في موقع مميز، حيث كانت تمر ساقية رقراقة قرب المدخل، وتنتصب عند اوتادها شجرتا تين ضخمتان، بينما يطل الصبار من فتحة الخيمة العلوية التي تقوم مقام المدخنة، وعندما يأوي العيال الى المراقد، فان ابي كان يشرع في ترديد امداح نبوية بصوت جهوري يتابعه السكان على ضفتي النهر الذين كانوا ينتظرون هذا الموعد اليومي قبل الاستسلام للنوم!
لقد تعلم والدي الورع من خارج المدرسة والكتاب ، وعاش حياة بسيطة قوامها القناعة والصبر الى درجة أنه اثر الجوع على بيع الارض حينما عوضه الله في وحيده من الزوجة الاولى باربعة من الذكور من زواجه الثاني والذين ابى الا ان يرثوا ممتلكاته بدل استبدالها بدراهم معدودة أيام المجاعة كما فعل الكثيرون!
في اواخر سنة سبع وخمسين وتسعمائة والف، كانت حالة والدي الصحية قد تدهورت بسبب حدث مأساوي.
اجرى أبي عملية جراحية بمدينة وجدة لعلاج فتق بسيط، وحدث أن سقط أحد المرضى من على سريره المجاور فهب والدي لنجدته ، وهو الذي كان عليه الا يتحرك، لكن الوازع الانساني جعله يغامر فارجع الرجل الى مكانه بصعوبة ليموت هذا الأخير بعد دقائق، بينما غادر هو في الغد من غير استئذان متأثرا بالمشهد المفجع، مما عجل بانهياره.
كان فصل الشتاء على الابواب، لذلك طلب مني والدي واخي لحبيب الذي يكبرني ان نرافقه ليجمع بعض الحطب استعدادا لمو سم البرد لأنه ربما أدركه الموت في الأيام الموالية كما كان يردد على مسامعنا ونحن لا نفهم قصده!
لم نعر كلامه اهتماما لصغر سننا، وظللنا نمرح، بينما كان الاب المسكين يستنزف اخر قدراته ليضمن لنا الدفء بينما يمضي هو نحو مثواه البارد في غضون ايام قليلة!
فوجئت صباح ذلك اليوم بوالدتي تنتحب بينما كان كان أحد الفقهاء يقوم بطقوس الرحيل الابدي لوالدي!
كان الحاضرون يتحدثون عن شيء اسمه الموت، لكن الامر لم يحرك سواكني لأنني وببساطة لم أكن ادرك معنى الموت!
حينما تمت المراسيم، وبعد صنع محمل من اعمدة الخيمة، وضع والدي المسجى على ظهر دابة لينتقل نحو ،، لمقام،، ليوارى الى جوار السابقين.
يرقد والدي في هذه المقبرة المشتركة مع شرفاء اولاد سيدي بالقاسم، وتضم رفات أجيال غابرة ضمنهم قتلى معركة،، صفية،، وظل أهلنا يوارون موتاهم هناك تيمنا بجوار الشرفاء، غير أن قبر والدي لم يعد معروفا شأنه شأن اخرين عديدين، بينما حرصنا على ألا يتكرر الأمر مع والدتي، لكن نفاذ البقعة المخصصة للدفن حتم فتح مقبرة جديدة على بعد كلمترات، وكان من الطبيعي أن تحدث القطيعة بسبب مزروعات الشرفاء التي تحيط بالمدينة الصامتة!
.
مازلت اذكر ان رجلا لا زال على قيد الحياة قد أردفني خلفه وناولني قطعا من الحلوى شغلت بها نفسي وأنا أجهل بأن الذي كان يحملني على كاهله لن يعود ابدا، وأن علي أن أقضي بقية الحياة بدونه!
لقد تعلمت كما تمنى، لكن هل بأمكاني تسديد ثمن الرحلة على كاهله؟ هل أنافس والدي في بساطته وايمانه العميق؟ هل امتلك قدرته على الصبر والجلد؟
انها سلسلة أسئلة سوريالية لا أملك عنها جوابا شافيا وأنا في رحلة يعلم الله وحده أسرارها وخباياها التي أساله عز وجل أن تكون على قدر طاقتي المتواضعة!
لقد نجوت من الفقر والمعاناة، ولكنني لم أكتسب قوة ايمان والدي الذي استقبل الموت راضيا وبلغ والدتي كل الوصايا التي كانت تؤرقه!
لن أستطيع رد الجميل مهما فعلت، لكني أتوجه الى الله عز وجل أن يجازي والدي معا بما هما أهل له، وأن يجمعنا في جنة الفردوس الأعلى مع كل أحبتنا، امين.
Aucun commentaire