لماذا بدأ ترامب خطابه بآيات من الإنجيل
أحمد الجبلي
يقول الشيخ علي القرة داغي: « بدأ ترامب خطابه بقراءة الإنجيل واستشهد به عدة مرات وعند قراءته نكس الجميع رؤوسهم وأغمضوا عيونهم احتراما للإنجيل. فكيف يقولون أن دولتهم علمانية، وعندما كان الرئيس المصري محمد مرسي يستشهد بآيات بينات من القرآن الكريم في خطابه اتهمه مسؤولون أمريكيون بأنه يريد تحويل مصر إلى دولة دينية ».
فلماذا إذن بدأ ترامب خطابه بآيات من الإنجيل و استشهد في خطابه بآيات كثيرة منه؟
رغم أن الدستور الأمريكي ينص على أن أمريكا دولة علمانية، إلا أن الدين موجود في عمق حياة الإنسان الأمريكي بل وحتى في عمق القرار السياسي الذي يخرج من البيت الأبيض. يقول هابرماس في الندوة الشهيرة حول قوة الدين في المجال العام التي انعقدت سنة 2009: « إن الممارسات والمنظورات الدينية تمثّل مصادر أساسية للقيم التي تمدّ الحياة بأخلاقيات المواطنة » ويقول تيلر في نفس الندوة: « إن الأنظمة التي تستحق صفة علمانية لا بدَّ أن تُفهم بأنها ليست متاريس ضد الدين ». وحول علاقة الدين بانتخابات الرؤساء يقول مايكل كوربيت في كتابه الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية: » لعب الدين دورا مؤثرا في سلوكيات الناخبين عبر التاريخ، فعلى سبيل المثال، يتجه اليهود والكاتوليك إلى انتخاب المرشحين الديموقراطيين أكثر من المرشحين البروتستانت، وقد أثر الدين حتى على طريقة عرض المرشحين والمسؤولين المنتخبين لقضاياهم على عامة الناخبين »
ولهذا يجد رجال الدين في المجتمع الأمريكي مكانا عليا بين الناس ولدى الساسة أنفسهم، بل ويُعتبرون موجهين رئيسيين لهم ولغيرهم، حيث نجد للكنائس هيبة ومكانة تجعل حتى القانون يتماهى معها ويحمي تواجدها ويقدس مشروعاتها، كالإعفاء من الضريبة والسماح بتأسيس قنوات إذاعية وجامعات خاصة ويسمح لها بجمع الصدقات والتبرعات، ولهذا نجد أن مجرد كلمة قد يلقيها القس المبشر الشهير هول لندسي أو بات روبرتسون أو جيري فالويل الرجل الإنجيلي صاحب القنوات التبشيرية وجامعات القديسين تجد صداها في قلب جل الأمريكيين، ومن أهم ما ميز فالويل مثلا هو السعي لجعل الإنسان الأمريكي يأكل ويشرب ويتنفس بالدين في كل مناحي حياته لذلك نجده يقول:” إذا لم يتعلم المرء كلام الرب، ولم يعرف ما جاء بالإنجيل، فإنني أشك في قدرته على أن يصبح قائدا فعالا. وقيادته لكل شيء، سواء أسرته أو كنيسته، أو أمته لن تكون ناجحة دون هذه الأولوية” ونظرا للتأثير لمثل هذا الرجل الإنجيلي، وأمثاله، في أمريكا استطاع أن يدخل في صراع مع العديد من رؤساء أمريكا إخضاعا لهم لآراء الدين وتوجهاته على رأسهم بيل كلنتون. ولهذا لا نستغرب عندما نجد بيل كلينتون، إذن، في خطابه الافتتاحي سنة 1997 قد استعمل استعارة من التوراة حينما قال” استرشادا بالرؤية القديمة لأرض الميعاد، فلنوجه أبصارنا اليوم إلى أرض ميعاد جديدة » ، وفي خطاب فبراير 1998 أمام ألفي رجل من أهل السياسة والفكر والكونغريس حيث شبه نفسه بالملك سليمان، وشبه الأمريكين بشعب الله المختار، وشكر للأمريكيين نصائحهم وإرشاداتهم التوراتية للتعامل مع العراق وتشجيعاتهم على قصفه »
لقد اعتمد الرؤساء الأمريكيون بدءا من جورج واشنطن فصاعدا على الحس الديني، ليس للتأثير على عقول أبناء الشعب فحسب، بل على أفئدتهم أيضا لتأييد الأهداف الرئاسية والسياسية القادمة، وهذا المنحى لم تكن أمريكا وحدها التي نحته، بل نجد كذلك المصلح البروتستانتي مارتن لوتر في ألمانيا وجون كالفن في سويسرا قد ساندا اعتماد حكومتي هذين البلدين على الدين، وقد فعلها من قبل هنري الثامن في انجلترا، وهؤلاء يعتبرون سلف وقدوة الكنائس في أمريكا.
وفي هذه السياقات يجب أن تفهم الاستشهادات المتكررة لترامب من الإنجيل، بل وإن مسألتين اثنتين في أمريكا يعتبران من الطابوهات التي لا يمكن أن يتجاوزها أي رئيس جديد إذا أراد أن يفوز في الانتخابات أو يكون له دعم شعبي ومؤسساتي من جميع الولايات الأمريكية، فالجانب الأول وهو الدين ولهذا لم يستطع أي رئيس أمريكي منذ جورج واشنطن الأب الروحي للأمريكيين، أن يتركه جانبا أو يعمل على إقصائه أو لا يستند إليه في اتخاذ قراراته الداخلية أو الخارجية. فلا يمكن أن نتوقع اعتراض أي أمريكي وهو يستمع لبوش وهو يقول بأنه سيدخل العراق باسم الرب، فما له إلا السمع والطاعة والإذعان فيرى أن جنود أمريكا الذين هم أبناء الأمريكيين في مهمة مقدسة ترضي الرب وحتى إذا ماتوا فهم شهداء « عند ربهم يرزقون ».
وأما الجانب الثاني وهو الدعم اللامشروط لإسرائيل، وهذا الجانب هو نفسه يجد جذوره في الأناجيل المعتمدة في أمريكا. يعتقد بعض البروتستانت الانجيليين إن إنشاء دولة إسرائيل العصرية هو إتمام لنبوة في الكتاب المقدس. على سبيل المثال، يقول رجل الدين جون هايغي في كتابه » العد التنازلي للقدس »: « دوَّن النبي أشعيا هذا الحدث البالغ الأهمية قائلا: ‹ستولد أمة في يوم واحد›، اشعيا ٦٦:٨. ثم يقول: « إنه أعظم إتمام للنبوة شهده القرن العشرون. وهو دليل حي يبرهن لكل البشر إن إله إسرائيل ما زال في الوجود » .تقول نبوة اشعيا: « مَن سمع بمثل هذا؟ مَن رأى مثل هذه؟ هل تولد أرض بالطلق في يوم واحد؟ أو تولد امة في مرة واحدة؟ فإن صهيون أخذها الطلق وولدت بنيها ». اشعيا ٦٦:٨. ويقول السيناتور ألبرت بيفردج في تصريح ديني محض بحمولة سياسية ” إن الله اصطفى الأمة الأمريكية من بين كل الأمم والشعوب وفضلها عليهم وجعلها “شعبه المختار” وذلك من أجل قيادة العالم وتخليصه من شروره ». كما أن الأمريكين لا يختلفون في أن تأسيس دولة إسرائيل إنجيليا يعتبر نبوءة دالة على قرب العودة الثانية للمسيح الذي سيشن حربا عالمية كبرى، ولذلك فجميع رؤساء أمريكا يعملون ما استطاعوا على صناعة الحروب والدمار في العالم إسهاما منهم وفق الإنجيل استعدادا وتعجيلا لهذه الحرب التي سوف لا تبقي ولا تذر.
إذن، لا داعي للاستغراب إذا بدأ الرئيس الأمريكي ترامب خطابه بآيات من الإنجيل أو إذا أكثر الاستشهاد بها، لأن الأمر لا يتعلق بإيمان ديني كما نفهمه، وإنما هو إيمان بمنطق الحروب والدمار والاستعداد لكل ما هو أسوأ، ووفقا لما يقوله الإنجيل الذي يحتوي على أكثر من 1200 آية تأمر بالقتل وسفك الدماء وعدم الرحمة في استعمال السيف.
Aucun commentaire