حكايا استاد متقاعد ـ الحلقة 5 ـ : الى فاس
عندما هزمنا الشهادة العنيدة- البكالوريا- كنا تحت وقع صراعات التقدمية التي ضجت بها الساحة يومئذ،حيث تولى معظم أساتذة الأدب والفلسفة شحننا بأفكار حالمة في التغيير الى درجة الطوباوية أحيانا،مما كان له دور كبير في اختياراتنا ونحن نطرق باب الجامعة.
لقد فعل فينا الشحن الإيديولوجي فعلته حتى أصبحنا نعتقد أن مجتمعنا يمشي على رأسه ويتعين إعادته الى الوضع السليم بلغة فقهاء الدياليكتيك!
إن الأساتذة الذين غرسوا في عقولنا الناشئة هذه التطلعات،إنما كانوا في الواقع يسعون إلى إعادة صياغة مسارهم حينما شجعونا على خوض التجربة الجامعية باعتبارها المجال القمين بتحويل أحلامنا إلى حقائق على الأرض!
اتفقت وصديقي العزيزين محمد الوالي والبشير بنعالية على الالتحاق بجامعة،،سيدي محمد بن ع الله،،بفاس أواخر سنة أربع وسبعين وتسعمائة وألف.
كانت معرفتي بتراب المغرب تنتهي عند تاوريرت،حيث رسخ في ذهني من خلال أخبار الأهل أن كل ما يلي هذه المدينة،هو،،الغرب،، الذي قد يعود منه الزائر وقد لا يعود!
عندما ودعنا الأهل،كنا على موعد مع استقلال القطار لأول مرة،وكان هذا أبرز مكسب أولي سمح به نيل شهادة البكالوريا!
ركبنا عربة من عربات الدرجة الاقتصادية الذائعة الصيت،والتي كان المحتل قد خصصها ل،،ليزاندجان،،les indigenes حيث يصطحبون معهم الدجاج البلدي وباقي مافي القائمة!
كانت المقاعد مصنوعة من خشب صلب يستجيب لخشونة الجالسين عليه الذين خبرهم الأجنبي فكافأهم بما هم أهل له،حيث لا يصلون إلى وجهتهم حتى يقتص المقعد من أجسادهم غير المروضة!
ما كدنا نبتعد عن ،،تاوريرت،حتى صرت أمازح صديقي: ،،كلانا الغرب،،!
كان الرحلة ممتعة ومفيدة،فنحن لم نهتم بخشونة المقاعد ،لأن أي انتقاد كان سابقا لأوانه حينئذ،بقدر ما أتيح لنا أن نكتشف ،،المغرب غير النافع،،الذي حدثنا عنه أستاذ الجغرافيا بإسهاب،وكان يبرر ذلك بالعوامل الطبيعية التي استثنت المنطقة من عطائها!
كان الواقع مطابقا للدروس النظرية،ذلك أن المجال الممتد بين تاوريرت إلى تخوم تازة تميز بأحراش فسيحة تتلاعب عبرها الأتربة لتصل إلى عنان السماء لشح التساقطات وندرة الغطاء النباتي.
إن هذا الفضاء الذي روضته إرادة الإنسان المغربي،وحوله إلى حقول من الأشجار المثمرة وغيرها من المنتوجات،كان يومئذ يثير الكابة في النفوس،ويجعل المسافر يستبطىء الابتعاد عنه.
وبمقابل ذلك،كانت تازة تشعرك بأن مغربا اخر يبدأ في التشكل حالما تطرق بابها.
تستلقي هذه المدينة في حضن جبال مقدمة الريف ينعشها التيار الهوائي الصاعد من تجاويف،،مغارات افريواطو،،وعند منحدراتها تمارس العيون والمجاري المائية انسيابها الأبدي حيث تجعلك على موعد مع أراض خصبة تزخر بكل أنواع الخيرات إلى أن تسلمك إلى حاضرة المولى إدريس.
يتبع
Aucun commentaire