الدولة والفقر..من يحارب من
ما تروجه وسائل الإعلام في بلدنا حول رغبة جهات حكومية في محاربة الفقر،وما تتداوله الألسن بشأن فضل هذه الهيأة أو تلك الجمعية في تبديد آثار الفقر هنا أوهناك،يثير سؤالا مركزيا ومشروعا وهو: هل الفقر يحارب؟ شأنه شأن الأمراض المعدية أو الجيوش الغازية، نعد لها العدة ونترصد لها عند كل منعطف.قطعا لا فالفقر لازمة سوسيو اقتصادية محايثة للوجود البشري ذاته. وهو مبرر ومشهود له بشرعية الوجود في سائر الأديان، ولو تحت مصوغات أو عناوين يجوز تمطيطها حسب المقام . إذن كيف بنا ننجر إلى حرب غير محسوبة ونحن نعلم أن الخصم أي "الفقر" إنما يتحرك داخل الشرعية الدينية والإجتماعية،ولا سبيل للقضاء عليه بالأساليب والآليات الهجومية التي نتقن مناولتها حتى الآن.
قد يقول قائل،لا يريد ان يرى بالعين المجردة،أن مفهوم المحاربة يجب التماسه في سياقه المجازي،فيعني ما نحبذ أن يعنيه من تدخلات سلسة ومناسبة في النسيج المجتمعي بغية خلخلة كيانه لترتيب مطلبه وحاجياته،ولكن للأسف شيئا من هذا لم يكن هو المقصود،ما دامت المبادرات التي تطلقها بعض الجمعيات والجهات الحكومية ما فتئت تدور في مضمار الإستقطاب او التوظيف السياسي،وحتى المركنتيلي/النفعي،كتكبيل المواطن الفقير مثلا بالديون التي يقال أن نسب فوائدها مدروسة أو رمزية ،وما دام ما تقوم به بعض الجمعيات من توزيع لمعونات عينية أو نقدية غير منتظمة، لا يتجاوز هذا المنطق النفعي/الإستقطابي.
إن ما يجب التاكيد عليه، قبل أن يحين موعد الحسم في مبررات الدخول في هذه الحرب، هو أننا نعيش مفارقات لا يجوز المرور عنها دون إثارتها واستقصاء دلالتها. فلماذا لا نقول مثلا،في صيغة مقابلة،يجب أن نتجند لمحاربة الغنى ،حتى وأن هذه المبادرة لن تكون واردة طالما أن كل ذي مال يعض على ثروته بالنواجد . أليس بهكذا توجه نكون قد أعلنا الحرب على الوجود ذاته ،ما دام هذا الوجود ينشد الرخاء وبحبوحة العيش كواقع معياري.
ولكن في المقابل،إذا كانت هذه الجمعيات والجهات الحكوميةتحارب الفقر أو يبدو أنها تفعل ذلك، فلماذا تزداد طوابير الفقراء طولا في البادية والمدينة على السواء. وتزداد التباينات حدة في نفس واقع الفقر بين الإحتياج وضعف المورد، وبين التشرد والضياع؟ هل يتم تخصيص وسائل هامة واعتماد آليات مختلفة لتكون النتائج عكس ما هو منتظر:مزيد من الفقراء مزيد من الهشاشة والتهميش.
مطلوب إذن من كل من يتعاطى مع إشكالية من هذا الحجم وهذه الطبيعة الكونية أن يتوخى الموضوعية في الطرح والتنفيذ .فبدل أن يرفع شعار محاربة الفقر، الذي هو شعار غير عملي وغير متناسب مع الشرط الإنساني في التمايز،عليه أن يطالب بتفتيت الثروات المتراكمة في أيدي حفنة معدودة من أصحاب النفوذ والإمتيازات، وهذه حقيقة عملية شائكة ومؤلمة، أشبه ما تكون بعملية تفتيت الحصي في المثانة. وعليه أن يناضل من أجل تصحيح أجرة الموظف الصغير والمستخدم ،بدل الزيادة فيها بنمط"السقي بالتقطير" وبعد تزايد الإحتجاجات وضغط النقابات. ثم عليه أن يطالب بتنمية حقيقية تثمن العمل أيّا كان مجاله وتستحضر كرامة المواطن .
إن الصيغة الجديدة التي نفترضها من أجل إعادة تعريف وتوصيف ما يسمى بمحاربة الفقر هي الإنكباب على محاربة التسول الإحترافي الذي يسمم الحياة الإجتماعية، ومحاربة اللصوصية السافرة منها والمقنعة ،والتصدي للتهميش الإجتماعي والرشوة والوصولية ونظام الإمتيازات وسائر مؤشرات الفساد . آنذاك فقط سنكون أمام خيارين: إما أن نكسب رهان محاربة الفقر الذي اتينا على سرد بعض مؤشراته آنفا، وبذلك نكون قد حسنا موقعنا في سلم الترتيب الدولي وكسبنا ثقة العالم واحترامه، وإما أن تفشلجهودنا لضعف فينا وفتور رغبة، بحيث تبقى الشعارات والمبادرات الورقية بديلا عن التصدي للواقع العيانين وهناعلينا ان نفتح جبهة اخرى في الحرب وهذه المرة مع قوى الرفض والعصيان لواقع لم تكن كفته إلا دائمة الميلان لجهة الكل في الكل،من أصحاب الإمتيازات التي ذكرنا ، معطوف عليهم بعض مما يسمى بالفئات النشيطة من المجتمع.
2 Comments
شكرا لكم أستاذي الكريم محمد اقباش على هذا الموضوع، إن أخطر فقر يواجه بلدنا الحبيب هو فقر العقل والإرادة والإنسانية، وهو فقر لا يمكن تعويضه بمال الدنيا كلها. لكم كل التقدير. والسلام
إ، الفقر آفة اجتماعية و هو مرض ينخر المجتمع و باستطاعة هذا المجتمع القضاء عليه و محاربته بوسائله المباحة و المشروعة و هي كثيرة و في متناول المسؤولين القائمين على أمر هؤلاء الفقراء ، فحين كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجوب شواع المدينة ليلا و الناس نيام و يتفقد الرعية و يحمل أكياس المؤن لليتامى و المحتاجين كان يفعلها من باب القضاء على الفقر و المثل بالنسبة لعمر بن عبد العزيز الذي كان يرجع اليه أصحاب الديوان بكل الخراج لأنهم لم يجدوا لا محتاج و لا مسكين كان أيضا يعمل على محارب الفقر الذي قيل فيه لو كان رجلا لقتلته، و نحن في مجتمعنا هذا تصرف الملايين من ميزانيات المجالس البلدية في إعادة تبليط الساحات و تغيير الأرضيات و تزيين الواجهات بسبب و بدون سبب ، و لا نجد بعض الدراهم تصرف على الفقراء و المعوزين بل ترى هؤلاء الضعفاء المعوزين يفترشون الأرضيات المبلطة و يمدون أيديهم للتسول من المسلمين و غير المسلمين و لا من يحرك ساكنا ..فمن أولى بهذه الأموال ؟ تغيير الأرضيات و الساحات المعادة أم هؤلاء البؤساء ؟