التراث
التراث
التاريخ في أبسط صوره، وأوجز تعاريفه، تسجيل لصيروة الحياة الإنسانية بمختلف جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، أما التراث فهو ما يترسب في ثنايا حقب هذا التاريخ وما يبقى منه. هذا المترسب قد يكون ماديا كالآثار العمرانية والنقوش، وقد يكون فكريا مما جادت به قرائح الذات الإنسانية الفكرية خلال صيرورة تطورها.
هذا المترسب والذي يعلق عادة عند التلفظ به بكل ما هو قديم، أصبح قضية ملأت الدنيا وشغلت الناس، فكثرت حوله الدراسات والأبحاث لتتحول في مجملها إلى سؤال واحد ووحيد في إطار المفاهيم المستحدثة كالعولمة والحداثة وصراع الحضارات وحوار الحضارات… هل نقبل هذا التراث أم نرفضه؟ خصوصا وأننا نشاهد اليوم ونسمع بما يصطلح على تسميته بالتفسير الخاطئ للهزيمة العربية، وهو تفسير تبناه ذووا النفوس الضعيفة التي تنحني رؤوسها أمام هبات الرياح مهما دقت نسائمها، فعزوا هذا التفسير إلى الاعتقاد أن الغرب إنما هزمنا لأسباب تتعلق بأسس شخصيتنا الحضارية وتشبثنا بها فأصبح سبب الهزيمة هو اللغة العربية، واللباس العربي والسكن العربي، والتمسك بالدين الذي يكبل قدرات العلماء على البحث الحر، فقبحوا تراثنا وجرموا شخصياتنا الحضارية وملامح ثقافتنا ودعوا لكي نتمكن من اللحاق بركب الحضارة الحقيقة في نظرهم إلى الانسلاخ عن جلودنا وهوياتنا وتراثنا والذوبان في صهارة الغرب.
تقول عائشة عبد الرحمان: » …فحين يتحدث المتحدثون عن عزلتنا الفكرية يتجهون بها مباشرة إلى ما يشكون من قصور اتصالنا بجديد الفكر العربي، وقل منهم من يشكو عزلتنا عن ماضينا نحن قريبه والبعيد ».
قد نسمع من حين لآخر حناجر تنادي بجهارة صوتها حسب مرجعيات وخلفيات تفكيرها لماذا هذا الاهتمام المتزايد بالتراث؟ يجيب محمد عابد الجابري بأن الاهتمام بالتراث ليس فيه ردة فكرية وليس فيه نوع من تأزم الوعي العربي، وأن الأزمة كل الأزمة كامنة في فكر النخبة المثقفة التي تلهث جريا وراء المعارف والمناهج المستوردة من خصومنا الحضاريين مستهلكين فقط دون أن يكونوا مبتكرين منتجين، وهم يحسبون أنهم كلما انقضوا على التراث ازدادوا قربا من الحداثة.
كما أن هناك سؤلا ظل مخيما على أجواء الأمة العربية، هل نبني مستقبلنا على أساس التراث وحده؟ أم على أساس المعاصرة وحدها؟، أم على أساس كليهما؟.
حقيقة أنه في خضم هذا التيار الجارف الذي غزا الأمة العربية الإسلامية بالاستعمار والاستغلال المادي تارة وبالاستلاب الفكري والحضاري تارة أخرى حدث هناك نوع من الانقطاع عن التراث أو قل صراحة في بعض الأحيان عزوف إرادي عنه لإثبات التبعية، فاتجهت شريحة كبيرة من المجتمع، وللأسف الكبير شكلت النخبة المثقفة غالبيتها، نحو الآداب والعلوم الغربية غير مسلحة بهوياتها الحضارية والدينية والثقافية فكان التأثير سريعا، وانعكاس التأثر واضحا.
ما يمكن الجزم به، هو أنه لن تقوم لهذا الأمة قائمة، إلا إذا التفتت إلى الوراء، إلى إحياء تراثها، وربط خلفها بما خلفه سلفها، لأن ذلك هو السبيل الوحيد الذي يمنحهم حصانة حضارية.
Aucun commentaire