خطبة من شأنها أن تغير العالم – الحلقة الثالثة
خطبة من شأنها أن تغير العالم – الحلقة الثالثة
لقد سبق وتناولنا في الحلقة الماضية حديثا عن الممارسة في علاقتها بكلمات "بهارابيان" الثلاث والتي هي الكلام والصوت والحركة. كما تحدثنا عن الأمور التي يجب على الخطيب أو المحاضر ألا يهتم بها كالتوتر والعصبية التي تنتاب المتحدث قبل بداية الحديث، والخجل وعدم جودة الصوت والعلامات الخلقية والطارئة التي تشوش دهن المتحدث فتثنيه عن التركيز على الخطبة والجمهور.
وسنركز في هذه الحلقة على إعداد الخطبة لما له من أهمية مركزية بعد النجاح في اختيار الموضوع .
كثيرة هي الخطب التي حضرناها، لكن لم يدم طويلا حتى بدأ تفكيرنا في الشرود، وكانت النتيجة الوحيدة بعد نهاية المحاضرة أو الخطبة هي معرفتنا لعدد الثريات المعلقة، وعدد السواري التي تشد السقف، ولم نعرف طبعا عدد الأفكار التي أوردها الخطيب أو المحاضر في خطبته أو محاضرته. ولا نفشي سرا لو تحدثنا عن الذين نسمع شخيرهم بالقرب منا، لأن أحلى مكان ينام فيه المتعب والساهر هو المسجد أو قاعة المحاضرات عندما يكون الخطيب فلانا أو يكون المحاضر علانا.
اختيار الموضوع:
لا يترك الاختيار، دائما، للمحاضر أو الخطيب في أن يختار موضوعه. فالخطيب قد تصله توجيهات من الهيئات المسؤولة تحدد له الموضوع. والمحاضر قد يستدعى من أجل الحديث في موضوع ما تحدده الجمعية أو النادي أو أي هيئة. لكن في كثير من الأحيان تكون تمة حرية في اختيار أي موضوع. وأهم سؤال يجب على الخطيب أو المحاضر أن يطرحه أثناء عملية الاختيار هو لماذا هذا الموضوع. أي لابد أن يكون هناك سبب ما جعله يختار هذا الموضوع بالضبط وأن لا يختار آخر. فإذا لم يكن هناك سبب وجيه لاختيار الموضوع ننصح السيد الخطيب بأن يتخذ الخطوات اللازمة لإلغائه، لأنه لن يكون متحمسا ولا مخلصا لحديث لا يشعر بضرورته الحقيقية.
لن أكون مجانبا للصواب إذا قلت بأن القليل من الخطباء من يعرف سبب اختيار الموضوع. فمنهم من يتناول موضوعا إما لأن لديه مراجع متوفرة تساعده على إنجازه، وإما أعجبه الموضوع لكونه موضوعا مهما، وإما نسخه من مواقع النيت المخصصة لذلك، أو أنه وفي لكتاب خطب ما، فهو يحترم الترتيب وفي كل مرة يتناول خطبة من خطب هذا الكتاب.
إن الخطيب أو المحاضر عندما يريد أن يختار موضوعا فإنه مطالب بأن يجعل اختياره في ضوء " لماذا".
وإرشادا للخطباء نذكر لهم بعض الأسباب المهمة التي تفرض اختيار الموضوع مثل:
– بمناسبة ذكرى معينة دينية أو وطنية.
– تماشيا مع الأيام العالمية، مثل اليوم العالمي للتدخين أو اليوم العالمي للكتاب أو الصحة أو الشجرة…
– تزامنا مع حادث عالمي هز كيان المسلمين، والجمهور يحتاج لمعرفة موقف الشرع منه.
– انطلاقا من علمه بما يتفشى في الحي من فساد أو أخلاق فاسدة معينة. لأن أهل الحي يمثلون الجمهور المستهدف بخطبه.
– علمه بحادثة ما أو فتنة، فيجعل الخطبة مصلحة للأوضاع، وموحدة للصفوف، وحاسمة للإشكالات التي يعاني منها أبناء الحي.
لقد ذكرنا هذه الأسباب من باب أنه من العيب أن يعيش العالم في واد والخطيب في واد آخر. فيلقي الخطيب خطبة تجلد الجمهور جلدا، لأن الجمهور كان يتوقع منك أن تكون حيا مهتما بهموم المسلمين وبالقضايا الحساسة التي تمسه، وإذا بك تسرد أخبارا عن المريخ وبالقرب منك صاعقة صعقت العالم والمسلمين وينتظر الناس منك لتعرفهم عن موقف الشرع وتوصل إليهم قول العلماء العاملين.
بيد الخطيب أن يواكب التطورات التي تعيشها البلاد ويعيشها العالم، ويسهم من موقعه في الوعي والتعبئة ليجعل هذا المواطن مواطنا حيا يعلم ما يحاك ضده وما يراد به من هجمات صليبية وتنصيرية ومن إرهاب يهز الأرض هزا ويسفك دماء الأبرياء.
أما ما عدا ذلك، أي في حالة الاستقرار، فالاختيار للخطيب في أن يختار من الخطب ما يشاء لكن على أساس أن يكون تمة سبب وهدف يرمي إليه من خلال هذه الخطبة.
ضع الخطوط العريضة لموضوعك
لنحسم في البداية أننا ضد النقل الحرفي للخطب سواء من كتب أو من الشبكة العنكبوتية. فأول سمة تفتقدها الخطب المنقولة هي أنها لا تخاطب الجمهور، بل تلك الخطب المنقولة قد خاطبت جمهورا آخر له خصوصيات معينة وعاش ظروفا معينة. إنه لا توجد خطب صالحة لكل الناس في الزمان والمكان. فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل نفس السؤال من شخصين مختلفين فيجيب كلا منهما جوابا خاصا ومختلفا. وقد أجاز القبلة في رمضان لشيخ ولم يجزها لشاب. وجعل خير الأعمال بر الوالدين لشاب كان أبواه في حاجة لمن يرعاهما. وجعل أفضل الأعمال الجهاد في سبيل الله لرجل ظروفه وبنيته تسمح ليكون مجاهدا فعالا.
ثم إن في بدل الجهد تكوين للخطيب وتدريب له على التهييئ والانتقاء والترتيب و الاستعانة بالشواهد والاقتباسات وتوظيف القصة والمثل.
ينصح صناع الخطب وخبرائها، كأول خطوة بعد اختيار الموضوع، بترتيب المادة في نظام منطقي اطرادي تسلسلي. وهذا النظام يتراوح بين " لماذا" و"كيف" أي لماذا يعتبر هذا الموضوع ذا قيمة في حياة الإنسان المسلم؟ ولماذا يعد أساس النجاح في الدنيا والآخرة؟ فنجاح الخطيب في الإجابة عن لماذا هذا الموضوع كاف ليصحب الجمهور ليستلهم الإجابة. وتأدية هذه المهمة بإتقان تؤدي بالجمهور عند انتهاء الخطبة إلى طرح السؤال: كيف أضع هذه الفكرة موضع التنفيذ؟ كيف أتبنى هذه الرؤية وأجعل منها رؤيتي الخاصة؟ أو السؤال الأكثر أهمية، كيف أبدأ العمل حالا؟ مثلا، لو كان الموضوع حول الصلاة، فستكون الإجابة عن لماذا الحديث عن الصلاة هي كونها عمود الدين فمن أقامها أقام الدين كله، ومن أضاعها أضاع الدين كله. ولأنها أول ما يسأل عنه المرء يوم القيامة، ولأنها تنير الوجه، وتجلب الرزق، وتنهى عن كل فاحشة ومنكر، ولكن إذا أديت أداء خاصا مع توفر شروطها كلها ظاهرا وباطنا.
فنجاح الخطيب في جعل الجمهور يتفاعل مع خطبته ويشعر بقيمتها، ويستلهم معانيها، ويتشوق ليكون من مقيمي الصلاة ليحضى بكل تلك الامتيازات. إن هذا سيدفع الجمهور لطرح السؤال العملي: كيف أجعل من صلاتي صلاة تجعلني أحضى بما قال الخطيب، وستكون هذه الخطبة من الخطب التي تدفع الجمهور إلى العمل.
أهمية دمج القصة في المضمون
ليس عبثا أن يكون القرآن الكريم غنيا بقصصه. فالقصة تشدنا إليها شدا لأننا شعب نحب القصص وأحببناها مند الصغر. والقصة تحمل من الدلالة ما لا يجليه الكلام الجاف أحيانا. ولذلك فتوظيف القصة ضمن مضمون الخطبة يشد الآذان ويجلب التواصل، ويبعد السهو ويطرد النوم. كما أن القصة أسلوب يعمل على تبسيط المعنى لتكون الخطبة ومضمونها في متناول الجميع أميين ومثقفين..كبار وصغار. والقصة تمتاز بالترابط الشيق الذي ينشط العقل ويجعله دائم التتبع والانتباه.
أهمية الأدلة والحقائق والأمثلة والاقتباسات
من المثير أن أجد أحد أبرع الخطباء في العالم وهو " نيك موركان" وهو يقول: "الخطيب الجيد يستخدم حقيقة واحدة أو اقتباسا واحدا أو مثالا واحدا على الأقل كل دقيقتين" فإن كنا نتفق مع هذه القولة فأظن لأنها تؤكد فقط على أهمية ذكر مقاطع مقتبسة وأمثلة وشواهد تدعم الكلام وتضفي عليه قوة خاصة. وعندما يتعلق الأمر بآيات قرآنية أو أحاديث نبوية صحيحة فإن أهميتها تحتل مرتبة خاصة لأنها أكثر حجة وبرهانا على مصداقية ما يقوله الخطيب. لكن على أساس ألا تقحم إقحاما بل لابد من وضع الآية أو الحديث في المكان الأنسب الذي يجعل من أحدهما أو منهما معا دليلا وشاهدا وحجة. لأن المؤمنين لا يقدمون بين يدي الله ورسوله رأيا ولا فكرة.
كما أن للمثل أهمية خاصة في الحديث لكونه يزيل الغموض ويقرب البعيد..فالناس مختلفون من حيث سرعة أو بطئ الاستيعاب. فمنهم أناس يقطفون الفكرة قبل إتمامها، وهناك أناس ينتظرون منا أن نضرب لهم أمثلة لتجلي المعنى فيستوعبون. وأحيانا عوضا من أن نعطي أرقاما طويلة مملة عن عدد القتلى أو الجرحى في حوادث السير فالأفضل أن نقول: لو وضعنا أجساد الأشخاص ضحايا حوادث السير في خط مستقيم لوصلوا من وجدة إلى الدار البيضاء. فنحن الآن جعلنا الجمهور يشاهد الخط المستقيم، ولعل هذا التشبيه لن يمحو من عقله بل سيظل يذكره. ولو أردنا أن نتحدث عما ينفقه المدخنون يوميا على التدخين فلا داعي لإعطاء أرقام وإحصائيات جافة. بل من المهم جعلها على شكل رسم واضح يضفي على المعنى حجما خاصا يبرهن على مدى خسارة النفقات التي تصرف على التدخين. فلو قلنا مثلا لو بدأ مدخن ينفق على التدخين منذ الحروب الصليبية واستمر في الإنفاق حتى يومنا هذا فلن يصل إلى قيمة ما ينفقه العالم على التدخين. هذه الطريقة في إبراز الإحصائيات والأرقام تكون صورة مؤثرة دون شك. وهي أشبه بالمثل في تقوية المعنى المراد تبليغه لأنها تقدم الفكرة أو المعنى على شكل صورة واضحة رهيبة وعجيبة.
يعتبر توظيف الحقائق والاقتباسات والأمثلة متعة للخطيب مادام الجمهور مستعد للاستماع إليها وهي في حقيقتها مولدات للشغف والشوق.
فخطابات عظماء تاريخنا العربي والإسلامي كانت حافلة بالحقائق والاقتباسات والتعريفات والفكاهات والجمل النابضة بالحياة والتشبيهات والأمثلة مما يؤكد قولنا أن الأحاديث المؤثرة يجب ألا تخلو من كل تلك العناصر.
لا تحفظ خطبتك
إن حفظ الخطبة أو المحاضرة مجازفة خطيرة لا ننصح بها، فبمجرد نسيان كلمة واحدة تقع الكارثة، ومن المستحيل أن يتم استئناف الحديث بعد ذلك.
تتجلى المجازفة في حفظ الحديث في كونها تجعل الخطبة في كف عفريت، أي بمجرد التوقف لسبب ما داخل القاعة أو المسجد يضيع الخيط الناظم للكلمات فتبدأ المتاعب. وليس معنى هذا أننا لا ننصح بالحفظ تماما بل إنه من الجميل الذي يضفي سحرا خاصا على كلامك أن تحفظ الاقتباسات وتلقيها على مسامع الجمهور دون أن تقرأها كلمة كلمة.
ارتجل ولا تقرأ
ينصح الخبراء كل خطيب بقولهم: " لا تبحث عن الكلمات بل ابحث فقط عن الحقائق والأفكار وبتجمعها سوف تأتيك الكلمات طواعية" وبعبارة أخرى استعمل المذكرات وارتجل ولا تحفظ.
تجنب قراءة الخطبة
قد لا يتفق معي الكثير من الخطباء لو قلت لهم أن من الأمور المهينة للجمهور أن نقرأ عليهم حديثا أو خطبة حرفا حرفا. وذلك لسببين اثنين: السبب الأول يتعلق بالحقيقة التي تقول إن أي إنسان باستطاعته أن يكون مكان الخطيب ما دام سيكتفي بقراءة حديثه كلمة كلمة. وعندما نقرأ الخطبة فإننا في الواقع نقول: " إننا لا نهتم بهذا الجمهور حتى نعد له خطبة إعدادا جيدا، أو نلخصها على شكل أفكار فنحدثه وعيوننا في عيونه ليتفاعل مع ما سنقول. لن نفعل مثل ذاك لأن هذا الجمهور لا يستحق أن أتعب من أجله"
السبب الثاني يكمن في أن الخطيب يهين ذكاء الجمهور. أي إنه يفترض أن الجمهور لا يستطيع القراءة بطريقة صحيحة لذلك سوف يتطوع هو ليوفر عن الجمهور عناء قراءة الخطبة. وربما كان من الأفضل للخطيب أن يقف عند الباب ويوزع الخطبة على شكل مطبوع ليقرأها أفراد الجمهور في منازلهم على مهل وربما يعقدون حولها نقاشا مفيدا أكثر إفادة مما كان سيفعل السيد الخطيب.
إن القراءة الحرفية للحديث تصيب الجمهور بالملل والتعب والعياء. ولن يتفاعل لا مع الخطبة ولا مع الخطيب مادام الخطيب لا يستطيع رفع عينيه لأنه منهمك في قراءة النص.
اقرأ عند الضرورة
أحيانا تكون قراءة الحديث ضرورية، وذلك عندما لا يكون هناك هامش يسمح بالخطإ، كقراءة بيان، أو مذكرة من وزار الأوقاف، أو اقتباس طويل يصعب حفظه، وللأمانة لابد من قراءته حرفيا خوفا من تحريفه.
إذا كنت خطيبا وكان لك اختيار بين قراءة الحديث أو إلقائه، فعليك أن تضع في الاعتبار الجمهور المخاطب. لأنك مطالب بجعل الحديث شيقا بقدر الإمكان لذلك تجنب قراءة خطبتك.
و إلى أن نلقاكم مع الحلقة الرابعة إن شاء الله.
Aucun commentaire