خطبة من شأنها أن تغير العالم – الحلقة الثانية
خطبة من شأنها أن تغير العالم – الحلقة الثانية –
سبق وأشرنا في الحلقة السابقة عند معالجة هذا الموضوع، موضوع الخطبة التي من شأنها أن تغير العالم، إلى معنى التغيير الذي يتعلق بفعل الخطبة، وذلك عندما نغير من أفكار وقناعات شخص ما فتتم ترجمة ذاك التغيير سلوكا ممارسا في الواقع، أي يحدث تغييرا بينا في الفرد والمجتمع.
كما تحدثنا عن الأسس الأربعة التي لابد من توفرها في الخطبة من
حيث التهييء والإلقاء. ويتعلق الأمر بالمعرفة والإخلاص والحماس والممارسة. وسنجيب، انطلاقا من هذه الحلقة، عن الأسئلة الهامة التي سبق طرحها والتي لها علاقة بالممارسة أي سنوضح، إن شاء الله، ما الذي يجب أن تمارسه لتكون خطيبا مفوها وبارعا وتستطيع التأثير في جمهورك وبالتالي دفعه إلى العمل. ومتى وأين وكيف ينبغي عليك أن تمارس؟
وقبل ذلك نرى من الأهمية بمكان، أن نظيف شيئا لما سبق قوله عن الممارسة، والأمر يتعلق بالرابط الذي يجمع الممارسة في أبعادها الثلاثة الكلمة والصوت والحركة.
الممارسة ونظرية الكلمات الثلاث:
لنعرف أولا نظرية الكلمات الثلاث التي جاء بها ألبر مهارابيان العالم الفرنسي الذي يدرس بجامعة هارفارد.([1]) وأصل هذه النظرية أن الكلمات لا تحمل أي معنى غير المعنى الذي نعطيه إياها. وأن الكلمات لا تمثل في عملية الاتصال سوى 7% والصوت يمثل 38% في حين تمثل الحركة 55 %.. أي أن 93% من عملية الاتصال تكون غير ملفوظة.
وهذا معناه أن الخطيب أو المحاضر الذي لا يملك إلا الكلمات ففي حقيقة الأمر إنه لا يملك شيئا على الإطلاق. لأن الكلمات لا تحمل أدنى معنى غير المعنى الذي نعطيه لها، وليست لها أي طاقة غير التي ندخلها فيها، وذلك لأن نبرة الصوت قد تنقل بلاغا مضادا في المعنى للذي تحمله الكلمات، فالبلاغ الصوتي ذو تأثير كبير على البلاغ الكلامي. وكثيرا ما يقول الناس أشياء بنبرة صوت تضفي معنى مخالفا لمجمل ما يقولونه. ولذا فالمطلوب من الخطيب أو المحاضر أن يتأكد من أن كلماته تتوافق مع نبرة الصوت التي يستعملها. وحتى إذا قام الخطيب بدمج جيد للكلمات مع الصوت المناسب للمعنى. فإنه يحصل على 45 % فقط من عملية إيصال الرسالة أي المعنى. وبقي له ألا يلغي توظيف الحركة ولغة الجسم وقسمات الوجه التي لها تأثير أبلغ في عملية الاتصال من العاملين اللفظي والصوتي. وهي تشكل 55 % من مجمل عملية الاتصال. وحينها فقط تكتمل الرسالة في وضوحها. وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الخطباء وأمهرهم بين الكلمات الثلاث جميعها أي بين الكلمات والتي إن هي إلا وحي يوحى، ونبرة الصوت والحركات الجسدية وقسمات الوجه. يروي جابر بن عبد الله بن حرام أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه كأنه منذر جيش. وهذا المستوى الراقي في التفاعل مع الخطبة وبتناغم مطرد للكلام مع فيزيولوجية الجسد جعلت رسول الله عليه السلام أفضل خطيب عبر التاريخ.
عندما يمارس رياضي ما أو يؤدي أي تمرين جسدي، فإنه يكرر التمرين مرات ومرات. ويتسبب هذا التكرار في أن جسده يتجاوب آليا عندما يدعو عقله إلى إجراء هذا التمرين أو هذه الحركة. فعلماء الإتصال يطلقون على هذه الحركة " ذاكرة العضلات" أي أن نفعل الشيء الصحيح بدون وعي بكل حركة صغيرة. عندما يواجه متحدث قليل الخبرة جمهورا، فإنه يمارس عملية الاستفادة من جسمه. ينبغي عليه أولا أن يصنع الحركة وهو واع بها. بعد فترة وجيزة تتغلب ذاكرة العضلات ويجد نفسه قادرا على أن يركز على كلماته، بينما تقوم يداه وعيناه وجسمه عامة وبطريقة آلية بأداء الأشياء الصحيحة المتناغمة مع الكلمات التي ينطق بها. وإن عملية دمج بين الكلمات والصوت والحركة تجعل الرسالة تصل إلى الجمهور 100% أي بوضوح تام. أما في حالة عدم الدراية بهذه المكونات المتلازمة أثناء أداء الخطاب فإن أي اختلال في التناغم بينها يخلق نوعا من التشويش في ذهن الجمهور. لأن الكلمات تقول غير ما تعبر عنه الحركة أو الصوت. وبالتالي يضيع المعنى ويضيع المقصد الذي أريد تبليغه.
ونظرا لأهمية الحركة في الإلقاء والتأثير وإيصال المعنى، وجدنا الكثير من متفوهي العالم وأمهر خطبائه يتدربون على إلقاء خطبهم بالحركات فقط دون كلمات أو صوت، وهو ما يسمونه بالهمهمة، أي التعبير عن الأفكار والمعاني باستخدام اليدين والجسم والوجه. وبمعنى آخر يحاولون التعبير عن فحوى الخطبة عبر الهمهمة بكلمات غير مفهومة ليجعلوا الجمهور يفهم خطبهم.. وهو تمرين دربوا عليه تلامتذهم كذلك. وكثير منهم لم يكن يجد حرجا في أن يصرح بأنه يقف أمام المرآة ويحدث نفسه بالتعبير عن المعاني التي تتضمنها خطبته بالحركات حتى تترسخ تلك الحركات ويستدعيها تلقائيا عندما يقف أمام جمهوره.
وبعضهم لا يجد أدنى حرج كذلك في أن يصرخ في بيته بأعلى صوته، ومن يراه على هذه الحال يظنه مجنونا، في حين هو أعقل وأمهر الخطباء. وسيحين، إن شاء الله الحديث عن كيفية تدريب الصوت فيما هو آت.
ما لا تهتم به عند الإلقاء:
هناك أشياء تعتبر من عوامل التشويش التي يمكن أن تحبط عزيمة الخطيب وتقتل حماسته واستعداده، وهي تدخل فيما لا يجب الاهتمام به عند الحديث أو الخطبة.
إن المتحدث أو الخطيب الذي يتوقع الفشل غالبا ما يتولد لديه خوف شديد على إثره يتبنى موقفا سلبيا تجاه إلقاء كلمة أو خطبة أو محاضرة. وهذا التوقع أو الشعور للأسف هو من الأمور التي تدخل فيما لا يهتم به. وهناك عوامل ومشاكل أخرى سنبين كيفية تخطيها للوصول إلى منصة الحديث أو منبر الخطبة بثقة وحماس ورغبة.
1
– التوتر: ويتجلى من خلال أمور كثيرة منها جفاف الفم، البلل تحت الإبطين، غصة في الحلق، سرعة دقات القلب، اضطرابات في المعدة، ضعف الركبتين، ارتجاف اليدين…ولا أعتقد أن أحدا منا لم يتعرض ولو لواحدة من هذه العوامل، وهي علامات دالة على القلق والعصبية. والإنسان الذي يقول بأنه لم يتعرض لأي شيء منها فإن الأمر لا يخرج عن أحد الوصفين: الوصف الأول أن هذا الإنسان غير طبيعي لدرجة أنه لم يشعر بأي تغيير جسدي يدل على العصبية والقلق. والوصف الثاني أنه لا يهتم بأداء عمل جيد. لأن العلم يثبت بأن الإنسان العادي إذا أراد أن يقوم بعمل جيد فلابد له من أن يشعر بتوتر وعصبية. فافتقاد العصبية والقلق دليل على عدم الاكتراث بالإحسان في العمل.
فالعصبية، في حقيقتها، نعمة كبيرة من الله لتهيئة الجسم لمواجهة حالات الطوارئ، ولزيادة الحساسية لدى كل حاسة من حواسنا كي نتمكن من الاستجابة السريعة ومن الأداء الجيد. كما يرجع الفضل لها في التركيز المكثف. فالإنسان يصبح عصبيا عندما يشعر بالتحدي، وعندما يكون لديه سبب للاهتمام. تماما مثل ما يقع لنا ونحن ننتظر شخصا نحبه، فكلما تأخر عن الموعد كلما شعرنا بالقلق والعصبية. وهي علامة كبيرة على اهتمامنا به ورغبتنا في حضوره.
لعل ما سبق شرحه عن التوتر هو عبارة عن عوامل خارجية. وسنتحدث الآن عن العوامل الداخلية، أي: التغييرات التي تحدث داخل وظائف الأعضاء وتصاحب التوتر وتجعلنا قادرين على الأداء الأفضل.
كثيرا ما رأينا برامج علمية، واستمعنا لمحاضرات طبية تتحدث عن سبب تدفق الأدرينانين في الجسم. من تلك الأسباب الرسائل التحذيرية، أثناء الخوف أو العصبية، التي تبعث بها الحواس للمخ، وفي نفس الوقت ينقل المخ الرسالة إلى الغدة التي تفرز الأدرينانين في الدم فيدفع تيار الدم الأدرينانين إلى القلب الذي ينشط فيضخ بسرعة فائقة مسببا زيادة فورية في معدل دقات القلب، وبالتالي في كمية الدم التي تصل إلى كل الأعضاء الحيوية بما فيها حواسنا. فنصير نرى ونسمع ونتذوق ونشعر ونشم ونفكر بطريقة أفضل.
أحيانا قد تصدر أصوات منبعثة من المعدة قبيل استهلال الخطبة أو المحاضرة، وهي إشارة على أن الأدرينانين بدأ يتدفق في أنحاء الجسم. كأنه جاء ليساعد الخطيب على أن يتحدث بمزيد من الحيوية، وأن يقف بشكل مستقيم، ويتجاوب بسرعة أكبر ويفكر بصورة أكثر وضوحا، وليفرض نفسه وحضورة في القاعة إن كانت محاضرة أو في المسجد إن كانت خطبة.
إذن فالعصبية، إذا أحسننا الاستفادة منها، تجعلنا أقوى بكثير على مواجهة الجمهور وذلك لأن كل حواسنا بما فيها عقولنا التي تختزن المعلومات، أو عيوننا التي ستقرأ بعض المعطيات والأرقام، في اتحاد متكامل وقوة خارقة تمنحنا السيطرة على الموقف وبالتالي لا يبقى إلا أن تفعل الضرورات الأربع فعلها من معرفة وإخلاص وحماس وممارسة.
ومن الطرائف العجيبة والغريبة التي طالعتنا عليها بعض المجلات العلمية المتخصصة كمجلة العلم والحياة " science et vie " أ
ن مكتب التربية والتعليم بالولايات المتحدة الأمريكية خصص مبلغا قدره خمسة آلاف دولار لأحد الجامعات لتبحث عن علاج للخوف على المسرح. وقد تنبأ الكثير من الباحثين في علم الاجتماع والنفس وفي علم التواصل أن هذا البحث سينتهي بالفشل. ومبرراتهم هي أن التوتر والعصبية أمر طبيعي كالتنفس. وتغيير هذا الأمر يمكن أن يكون ضارا و يؤدي إلى كارثة. وفعلا فشل البحث كما تم توقعه. وقد كذبه واقع أكبر المسرحيين في العالم حيث أن بعضهم إذا أراد أن يقيس مدى فشله أو نجاحه ينظر إلى مستوى توتره. ومن الأسماء المحترمة جدا في المسرح العالمي "هيلين هايز" والتي حصلت على تقدير كبير لدرجة إطلاق اسمها على أكبر مسرح في العالم وهو مسرح " برودوي". وفي حوار صحفي معها سئلت إن شعرت بالعصبية والتوتر قبل العرض المسرحي بعد كل هذه الحياة الحافلة على المسرح. فكان جوابها: إن اليوم الذي يلي الليلة التي أفشل فيها في أن أصبح عصبية ومتوترة لهو اليوم الذي سوف أعتزل فيه المسرح.
وقد نصح أحد الأطباء فنانا بقوله: " لا تخف من أن تكون خائفا"
2- تجاهل الخجل:
فالخجل هو الآخر طبيعي جدا. يشعر به كل الناس بدرجات متفاوتة خلال حياتهم، حيث يخجل البعض من أن يقفوا أمام آخرين أو أن يفعلوا شيئا أمام حشد من الناس. فمنهم من يخجل من مظهره، والبعض يخجل من نقص في التعليم، والبعض يخجل في طفولته لكن سرعان ما يزول خجلهم بعد ذلك. وهم عكس آخرين لا يخجلون في الصغر لكنهم يكتسبون الخجل عندما تتقدم بهم السن. إذن فالخجل يظهر بشكل معين عند كل شخص.
فبالنسبة للبعض يعتبر الخجل مهما وممتعا وسرا للنجاح في الحياة. فعندما تتحدثه إلى إنسان ما فيضع عيناه في الـأرض حياء منك وخجلا فإنك ستحبه وستنجح علاقتك معه. أي الخجل هو عامل قوة أحيانا. لكنه مضر أحيانا عندما نجد طاقات هائلة أوتيت علما ومهارات لكن بسبب خجلها انزوت وتوارت عن الأنظار. وأحسب أن علاج مثل هؤلاء أن يغيروا أفكارهم حول ما يوجد أماهم لأن نظراتنا نحن للعالم الخارجي تفرض انعكاساتها على سلوكنا تجاهه. كما أن الخجل قد يتبخر إذا شعرنا بقيمة المسؤولية التي سنتحملها أمام الله لو تخلينا عن منبر ونحن أهل له أو عن إنجاز عمل ما فيه مصلحة للبلاد والعباد..أو أن باستطاعتي سد ثغرة من الثغور يؤتى منها الدين أو تؤتى منها البلاد أو الأمة. فأعتقد أنه لا مجال للخجل مقابل عظمة وخطورة ما يمكن أن ينتج عن عدم إقبالي وعدم التخلي عن خجلي.
3- لا تسمع لصوتك:
قد يكون صوت الخطيب أو المحاضر دون المتوسط من حيث الجودة والنغمات. وقد لا يعجبك صوتك وقد تكرهه، وإذا سجلته في شريط لا تطيق سماعه. وهذا وقع للكثيرين ممن يحترفون الخطابة والحديث المؤثر. فواصل ابن عطاء زعيم المعتزلة كان ألثغ ولم تمنعه مشكلته مع حرف الراء من أن يكون خطيبا مفوها اشتهر بأحد خطبه عبر التاريخ. فكثير من القادة الذين لم تعجبهم أصواتهم حققوا نجاحا عظيما من خلال قدراتهم الخطابية. لا تعبأ بصوتك ما دامت الجماهير تفهم ما تقول، ومادمت تؤدي رسالتك كاملة دون نقصان.
4-تقبل ذاتك.
مما يجعل الكثير من الناس ترتبك أكثر أمام جمهور المشاهدين كونهم إما ذوي بشرة سوداء، أو لهم آذان بحجم كبير أو أن أحدهم بوجهه علامة من جراء حادثة، أو أن أحدهم قصير جدا إلى درجة أنه لا يستطيع أن يطل على الجمهور إلا إذا وقف على أعلى درج من المنبر. فالالتفات لمثل هذه العيوب الخلقية أو الطارئة تجعل الإنسان يفكر في نفسه وفي الموقف الذي يتخذه الجمهور من خلال النظر إليه. فهذا الأمر مما يجب ألا يلتفت إليه. فالخطيب أو المحاضر مطالب بأن يتقبل ذاته كما هي حتى لا تشكل له عائقا يحول دونه ودون التفاعل مع كلمته أو خطبته.
رحب بكل فرصة أتيحت لك للحديث
فجوابا عن سؤال لماذا ينبغي عليك أن تمارس ولماذا ينبغي عليك أن تقبل كل فرصة أتيحت لك لتتحدث. هو ببساطة لكي تتحسن. رغم أن تمة عاملا نفسيا من وراء عدم الممارسة. فمن كان له موقف سلبي تجاه الممارسة ولا يسعى إلى كل فرصة متاحة للحديث. فإن كل موقف يواجهه للحديث أو الخطابة سوف يكون مشحونا بالقلق والخوف. ومن ناحية أخرى فإذا عزمت على أن تقبل بكل فرصة تتاح لك للحديث فإنك تكون قد خطوت خطوة كبيرة في اتجاه أن تكون خطيبا ماهرا ومؤثرا فعالا. ولتعلم أن الجبان الذي لا يستطيع مواجهة جمهور يموت آلاف المرات في حين لا يموت الشجاع إلا مرة واحدة…فكن شجاعا واقبل كل فرصة أتيحت لك لتتحدث سواء في جمعية أو نادي أو حفل أو اجتماع أو حتى ضمن مجرد جلسة عائلية..أو اجمع أبناءك وحدثهم. فإن هذا يدربك على الحديث ويمنحك تعودا على الإلقاء والمواجهة والتأثير.
وإلى الحلقة المقبلة بحول الله.
1لقد ضمن ألبر براهاميان نظرية الكلمات الثلاث في كتابه الشهير " البلاغ الصامت"
1 Comment
هل لك يا أخي كتب ومؤلفات حول هاته الأشياء التي كتبتها . غير ما كتبت لأن هده المقالات نسخناها. وهل ترشدنا إلى كتب جيدة تفيدنا في تحسين خطبنا. وجزاك الله خيرا.